موريس غلوتون.. ترجمةُ الكتاب بنفَس صوفيّ

28 ابريل 2021
مقطع من لوحة "الشيخ المعلّم يقرأ القرآن" لعثمان حمدي باي
+ الخط -

هل كان شَغفُ موريس غلوتون بعزف البيانو، في طفولته، وراء تعلقه، شابًّا يانعًا، بالسَّبك القرآني وإيقاع الكلمات فيه؟ وُلد هذا الباحث الفرنسي عام 1926، من أبٍ ماسونيّ كان "مرجعاً" في "مَحفل الشرق الكبير"، وفي أحضانه تشّرب تعاليم هذا التيّار الروحيّ، من دون أن ينتمي إليه كبيراً. وقد ربَّى أذنَيْه على الإيقاع والتناغم وظلَّ يعزف حتى نهاية حياته سنة 2017، عن عمر قارَبَ التسعين سنة.

في سنة 1950، حين كان له من العمر أربعٌ وعشرون سنة، وبعد رحلة بحثٍ، اهتَدى إلى الإسلام من بوّابة التصوّف، بوصفه التعبير الرّوحي عن جوهر هذا الدين، مُتّخذاً من ميشال فالسان (1907 - 1974) شيخاً له، وهو مفكّر صوفي كان قد أسهم في تعريف الجمهور الفرنسي بالإسلام وأدبيّات التصوّف عبر تَرجمة بعض كتب ابن عَربي (1165 - 1240)، وظلَّ وفيّاً له حتى وفاته سنة 1974.

وهكذا، ينتمي موريس غلوتون إلى فئة المُثقفين الأوروبيين الذين اعتنقوا الإسلام عبر قراءة تراثه المعرفيّ، وأحياناً عبر مسالك نائية، مثل الماسونية والفلسفة اللتيْن تحملان في طيّاتهما عناصرَ من العرفانية الغنوصيّة، وبَعضُها ممّا تَسمح به التأويلات الباطنية للقرآن. وابتدأ مَسيرة معاشرة النّصوص القديمة، لا سيما ذات الطابع الرمزي. ولمّا أتقن مفاتيح الضاد، أكبّ على ترجمة كتابات ابن عَربي متأثّراً بِرؤى هذا الفيلسوف عن المَحبّة وإشعاع الروح وتعالي الوجدان.

وإثر مسار وظيفيّ في مهنة المُحاسبة، وهذا أيضاً ممّا أهّله إلى ملاحظة المعادلات الأسلوبيّة داخل النسيج القرآني، وجد نفسه عاطلاً من العمل، سنة 1981، فاتّجه، بفضل زاده اللغويّ والروحي، إلى ترجمة الكتب الدينيّة مثل: "رسالة في اسم الله" لابن عطاء الله الإسكندري (1260 - 1309) و"شَجرة الكون" لابن عربي الذي أظهر أنَّ العالَم، في المنظور الصوفيّ، شجرة متفرّعة الأغصان تَشمل الكون بأسره. وهو ما قاده إلى إظهار المبادئ الكونيّة وهدم الاقتصار على التعاليم الفرعية. كما أقبل غلوتون على ترجمة كتب الرازي والشّريف الجرجاني، وله تَرجم كتابَ "التعريفات" الذي جمع أهمّ المفاهيم في سائر فنون المعرفة في زمانه. ولم يتوقف عن الكتابة والترجمة، فَنَقل بعدها نصوَص الغزالي (1054 - 1111)، مُؤَدّياً ما فيها من الأصالة وإحياء روح العبادات في لسان فرنسيّ مُبين.

قدم بالفرنسية إعراباً كاملاً لكلمات القرآن وشرح معانيها

ثم ما لبث أن يمَّمَ شطر القرآن عبر عملٍ لغويّ طريف عنوانه: "مقاربة القرآن عبر النحو والمفردات" (منشورات "البُراق"، 2002). وهو مؤلَّف عَجيب في بابه، إذ أنجز، بالفرنسية، إعراباً كاملاً لكلمات القرآن وشَرح معانيها واضعاً تحت كلّ عبارة وكلمة مقابلاتها، وذلك بعد تحليلها صرفيّاً ونَحويّاً. وقد نال هذا الكتاب صدىً واسعاً لدى متعلّمي العربية من الفرنسيين لأنّه صيغَ حسب المقولات البيداغوجية للعَرض والشَّرح التي تعوّدوا عليها.

ولعلّ هذه الأعمال، دَرساً وترجمةً، التي استغرقَت أكثر من أربعة عقود، كانت بمثابة الاستعداد لخوض غمار ترجمة معاني القرآن كاملاً، والنّزوع بتلك الترجمة منزعاً إشاريّاً لا يتوقّف عند حَرفيّة الدّلالات ولا ظواهر المضامين، بل يغوص في أصول المعاني العميقة والإشارات القاصية ليُدلل على ما في "الكتاب" من احتفاءٍ بِالروح وانفتاح على القداسة المُطلقة. فكان في اختياره للمفردات والعبارات الفرنسيّة يتحاشى الظواهر الجافّة ويتعقّب المعاني السامية التي تُظهر أنّ "الله محبّة" وأنّ القرآن جاء لهداية الأرواح، لا لتطبيق صارمٍ لقواعدَ تَغفل عن أصل الإنسان العالي، الذي شُرّف "بنفخة الروح".

كما عادت هذه الترجمة إلى أصول مفردات القرآن لتَرجمتها بنفس أسلوب الوَحي، مع استخدام معجم إشاريّ ومراعاة نَظْم الجُمل الفعليّة والإسميّة، يراوح بينها حَسب السياق وحسب ورودها في النص. ومن ذلك، أنّ غلوتون تَرجمَ اسمَيْ الله، "الرحمن" و"الرحيم"، الواردَيْن في البَسملة، بشكلٍ يخالف تماماً ما ذَهب إليه أسلافه، بمقابل: "المُشعّ بالمَحبّة" وذلك بسبب ما في كلمة "الرحمة" من معاني الرأفة والمحبّة، وحتّى الأمومة، التي تَشيع في القلوب والأكوان.

ومن ذلك أيضاً أنَّ كلمة "إيمان"، التي غالبًا ما تُتَرجم بـ foi صارت، تحت قلمه الرشيق، أقرب إلى معاني الثقة والصدق والحفاظ على الأمانة التي أودعها الله في الإنسان. وهو عينُ ما فَعله مع جذر "كفر"، الذي لا يستدعي، في ترجمته، نقيض الإيمان فقط، بل جُحود النّعمة والهروب من تحمّل الأمانة. نفس القرار الترجمي اتخذه مع كلمة "عذاب" (Châtiment) التي أدّاها بكلمة تفيد "تأديب"، لما في العَذاب من العذوبة وإرادة الإصلاح.

عملُه محاسِباً أهّله لملاحظة المعادلات الأسلوبية في القرآن

وقد مهّد لترجمته بمقدّمةٍ، تطرّق فيها بإسهاب إلى جماليّة النصّ القرآني وإشاراته إلى الحقائق الكونية، ومدارها المحبّة والرحمة، إلى جانب مُلحَقٍ موضوعي (thématique) استعرض فيه أبرزَ الموضوعات والمحاور القرآنية ومرجعيّاتها في الآيات والسُّوَر. وقد أقرَّ غلوتون فيها بأنّ عَمله هذا ثَمرَة سنوات طويلة من التأمّل في دلالات النصّ القرآني وإشاراته، والتدبّر في معانيه ومبانيه. كما أقرَّ أنّه اتكأ فيه على ترجمات عديدة سابقة، وازَن بين محاسنها ومساويها وتخيَّرَ الأفضل، فَضلاً عن الاستعانة بفريق عمل من المُترجمين والجامعيّين الذين ذَلَّلوا له بعض الصعاب.

القارئ العربي حقيقٌ أن يتعرَّف على مجهود عقودٍ مضنية بَذلها هذا الباحث سعياً وراء المعاني الروحيّة التي تتجلّى للوعي وتربطه بالمطلق عبر قوة الخطاب. فقد سخَّر حياتَه لا لترجمة المعاني فقط، بل لإيجاد ما كان منها رقيقاً راقياً، غُمِر في كثافة التأويلات البشريّة، بل وظلمة الأفهام السقيمة. أراد موريس غلوتون العودة إلى نورانية الحقّ، كما أشعّت من كلام الكتاب، ومعانقة بَراءة القول الربّاني حين كان كلامًا ينقله جبريل إلى نبي الإسلام فيتلوه على مُعاصريه.

من الناحية الفلسفية المحضة، يحقّ لنا أن نتساءل عن مشروعية مثل هذه الترجمات التي توسّع مجالَ حرّيتها، وقد تُسقط على النصّ ــ مع أنه حمّالُ أوجهٍ ــ ما ليس فيه. نعم، ربّما لم تكن ترجمة غلوتون وفيّةً لحرفيّة الخطاب القرآني ولا للمعنى الدقيق الذي تولّد في سياقه الأصلي، الشفويّ - البدويّ. وربّما تجاوز الأفق الثقافي الذي كان حاضراً في أذهان المخاطبين به بل لعلّه أضفى معانيَ ذاتيّةً انحدرت من تكوينه الخاص وقراءاته المعاصرة وقضايا المسلم الفرنسي الراهنة. لكنّه ظل وفيّاً لمجموع المقاصد العليا التي يتضمّنها القرآن، فسعى إلى إنطاق تَرجمته بما يليق بروحانية الإسلام وجمالية البيان التي صيغت فيها تعاليمه، بقطع النظر عن الأحكام الجزئيّة والتفريعات الفقهيّة التي قيلت في زمن محدودٍ لجمهور محدود. بحثَ غلوتون عن الكليّ والمُطلق العام. وَحدها ترجمةٌ ذات نَفَسٍ صوفي كفيلةٌ بإظهار المُطلق وعدم إغراقه بين تفاصيل الفقهاء وخلافيّات المفسّرين.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون