من يُكمل مشروع عبد العزيز بوباكير؟

24 يونيو 2022
عبد العزيز بوباكير (يمين الصورة) في ندوة "جامعة تيزي وزّو"، حزيران/ يونيو 2022
+ الخط -

قبل أيام، دُعي الكاتب والمترِجم الجزائري، عبد العزيز بوباكير، الذي غادَر عالَمنا أوّل أمس الثلاثاء، إلى قسم اللغة والأدب العربي في "جامعة مولود معمري" بمدينة تيزي وزّو، شرق الجزائر العاصمة، ليتحدّث عن الاستشراق الروسي؛ موضوعِه الأثير الذي خصَّص له عدّة كُتب بين دراسة وترجمة.

خلال الندوة، بدا بوباكير (1960 - 2022) وقد أنهكه المرض الذي لازمه في سنواته الأخيرة، وأدخله إلى المستشفى لأكثرَ مِن مرّة، حتّى أنّ كثيرين، في المشهَد الثقافي والإعلامي الجزائري، صدّقوا إشاعةً عن رحيله جرى تداوُلها قبل سنوات قليلة على مواقع التواصُل الاجتماعي، ومِنهُم مَن نشر نصوصاً ترثيه.

تحدَّث بوباكير لقُرابة ساعتَين، مِن دون أنْ يلتزم حرفياً بالموضوع المُحدَّد الذي اختير للندوة: "الاستشراقُ الروسي والأدب الجزائري: مولود معمري ومولود فرعون أنموذجاً". تحدّث باستفاضة كأنّه يعلم أنّها ستكون المرّةَ الأخيرة التي يُحاضِر فيها، وربّما لأنَّ موضوعاً مثل هذا لا يُمكن التطرُّق إليه إلّا باستفاضة تتبّع جذوره التاريخية وتستعرضُ أمثلةً عنه، وهي كثيرة.

"أنا مُتعب قليلاً". قال الرجُّل وهو يبدأ المحاضَرة أو الندوة، أو بالأحرى ما رَفض أن يُسمّيه مُحاضرةً أو ندوة. "أُفضّل أنْ يكون حديثاً أو نقاشاً مفتوحاً في مسائل عدّة: الاستشراق، والأدب الروسي، والأدب العالمَي، والوضع في الجزائر أيضاً".

خصّص عدداً من أعماله لرصد حضور الجزائر في كتابات الآخر

يبدأ عبد العزيز بوباكير حديثه بالتأكيد على تمايُز الاستشراق الروسي واختلافه عن الاستشراق الغربي مِن حيث المنهج والأدوات والرؤية والمواضيع، لافتاً إلى أنّ ذلك ينبعُ مِن خصوصية روسيا التي هي "ليست أوروبا وليست آسيا". يوضّح بأنّ التاريخ الروسي هو صراعٌ طويل بين التغريبيّين والسلافيّين، بين التطلُّع للانتماء إلى أوروبا وبين الإصرار على التمسُّك بـ"روسيا المقدَّسة".

يذكُر المتحدّث أنّ اهتمام الروس بالجزائر بدأ في القرن الثامن عشر، مِن خلال الرحلات التي قام بها عددٌ مِن الرحّالة الروس، ومن بينها رحَلاتٌ بأهداف تجسُّسية ضمن بحث روسيا التاريخي عن الوصول إلى المياه الدافئة. أمّا ترجمةُ الأدب الجزائري، فبدأت في ستّينيات القرن الماضي، مع نقل مجموعةٍ من أعمال محمّد ديب إلى الروسية، وبعده أعمالٌ لمولود فرعون ومولود معمري. وهذه الترجمات مهّدَت لظهور دراسات روسية عن الأدب الجزائري.

سافر عبد العزيز بوباكير إلى الاتحاد السوفييتي في نهاية السبعينيات لدراسة الإعلام في سانت بطرسبرغ، قبل أن يعود للجزائر ويعمل لسنواتٍ طويلة بين الصحافة والجامعة، ويُصدر أربعةً وعشرين كتاباً بين تأليف ("مذكّرات الشاذلي بن جديد"، و" بوتفليقة رجل القدر"، و"تداعيات في الفكر والأدب والسياسة") وترجمة ("مذكّرات محمد حربي"، و"مذكّرات أحمد طالب الإبراهيمي"، و"الأنتلجنسيا المغاربية: أفكار ونزعات"، و"النخبة الجزائرية في مطلع القرن العشرين").

ومِن جملة كتبه ما خصّصه لرصد حضور الجزائر في كتابات "الآخر"؛ مثل: "الأدب الجزائري في مرآة استشراقية" (2002)، و"صفحاتٌ منسية من ذاكرة الجزائر" (2017)، و"الجزائر في الاستشراق الروسي" (2018)، و"الجزائر في عيون الآخر" (2019)، و"رحلة كارل ماركس إلى الجزائر" (2019).

في كُتبه تلك، أورَد بوباكير معلوماتٍ وأحداثاً وقصصاً لا يعرفها إلّا القليلون في بلدٍ لا يُدوّن ذاكرته، وهذا ما جعله بمثابة "صندوقٍ للحقائق الغائبة"، والتعبيرُ للناقد مخلوف عامر الذي كتب عنه في مقالٍ سابق: "إذْ أقول إنّه صندوق الحقائق الغائبة، فلأنّه يخبرك بأنّ شارلي شابلين كان مِن بين مَن دشّنوا 'فندق الأوراسي'، وأنّ الرئيس البرتغالي مانويل تكسيرا غوميز نُفي إلى بجاية، وأنَّ تشي غيفارا حين زار الجزائر نجا من حادثٍ مات فيه سائقُه فبكاه كما يبكي أخاه... وأنّ القاص المصري "يوسف إدريس جمع في احتضانه للقضية الجزائرية بين القول والفعل، بين القلم والرشّاس، ففي عام 1961 التحق بجبال الجزائر وحارب العدوّ الفرنسي، وأصيب بجُرح. وبعد الاستقلال قلَّدَه الجزائريون وساماً عرفاناً له بكفاحه إلى جانبهم".

وفي تأكيدٍ على أنّنا في بلدٍ لا يُدوّن ذاكرته، يذكُر عبد العزيز بوباكير، خلال الحديث ذاته في "جامعة تيزي وزّو"، ألّا أحدَ في الجزائر اهتمّ بتوثيق ما كتبه المُستشرقون الروس عن الجزائر، ما يجعله الجزائري الوحيدَ الذي اهتمَّ بهذا الموضوع. أكثر مِن ذلك، يُخبرنا أنّه عرضَ، في كثير من المرّات، على مسؤولين ووزرَاء أنْ يتكفّلوا بمصاريف الترجمة، حتى يُنجِز أعمالاً أُخرى في هذا المجال، "لأنَّ عملاً كبيراً كهذا يحتاج إلى مؤسَّساتٍ ترعاه"، لكنّ طلباته لم تلق أيّ اهتمام يُذكَر.

ويُذكّرنا ذلك بنداء وجّهه، في 2017، إلى الدولة لتمويل إنجاز موسوعة بعنوان "الجزائر في عيون الآخر: من القرن 17 إلى 21"، غير أنّ أحداً لم يردّ على ندائه.

هذا التجاهُل الرسميُّ سيمتدُّ إلى رحيله وجنازته؛ حيثُ شيّعه – كما كتب الأكاديمي شريف مرابعي – "جمعٌ مِن الأصدقاء الصادقين الذين لاحظوا، بأسف، عدم اهتمام الجهات الثقافية والإعلامية الرسمية بهذا الحدث المُحزن، وكأنّ عبد العزيز بوباكير لم يكن في حياته مترجماً من اللغة الروسية، وقارئاً عارفاً بالثقافة العربية والأجنبية، وإعلامياً كان له حضورٌ قويّ في الساحة، وأستاذاً مقتدراً في مجال تخصُّصه".

قوبِل نداؤه لتمويل مشروع موسوعي بتجاهُل رسميّ

وكتب الأكاديمي والمترجم السعيد بوطاجين: "كان يُفترض أن تُقام مراسم تأبينية تليق بالراحل عبد العزيز بوباكير، أستاذاً وإعلامياً ومترجماً ومؤرّخاً ومثقّفاً قدّم كثيراً للجامعة والصحافة والمكتبة. ما حدث اليوم يدخل في باب الجحود. لم يحضر التلفزيون، ولا ممثّلو الوزارة، ولا شخصيات رسمية، كما يحدث مع المطربين واللاعبين والسياسيّين. ربما كان ذلك عادياً وطبيعياً في ظل سفسفة العقل. لكنّ غياب النُّخَب والكتّاب والشعراء والحداثيّين والتنويريّين والجامعيّين أمرٌ بحاجة إلى مساءلة".

وقال الكاتب محمد بن زيان: "جنازةُ بوباكير كانت بياناً لحالة المسخ التي أدركناها، سلطةً وإعلاماُ وجامعةُ ومثقَّفين... مثقّفون ملتبسون بالعُقد ومنخرطون في تصفيات الحساب، وفي اقتحام معارك بالوكالة عن العشيرة والقبيلة والعصبة والعصابة".

وكتب الصحافيّ بوطالب شبوب: "لو كان للبلد عقلٌ لجرى الاحتفاء بالأستاذ بوباكير، فهو مؤسّسة ثقافية متكاملة. لقد مات عبد العزيز بوباكير وآن لمن عدِم الموهبة أن يتمدّد في غيبة الموهوب".

أمّا الأكاديمي مولود عويمر، فكتب: "كان مِن ثلّة اليساريّين المحترَمين الذين بقوا منسجمين مع الحلم الماركسي في العدالة الاجتماعية، دون أن يُبعده ذلك عن الفكرة الوطنية والانتماء القومي، وظلّ دائماً وفيّاً لمشروع الكفاح الاجتماعي، وعبّر عن ذلك بصُوَر مختلفة وأساليب متعدّدة".

برحيله، يتوقَّف مشروعٌ بدأه لتدوين ما كُتب عن الجزائر بلغاتٍ أجنبية. ولئن كان بعضُ ما كُتب بالروسية قد وجد عبد العزيز بوباكير لنقله إلى القارئ باللغة العربية، فإنَّ كثيراً مما كُتب عن الجزائر بلغاتٍ أجنبية كثيرةٍ لا يزال مجهولاً فيها إلى اليوم، في ظلّ غياب أيّ اهتمام - رسمي أو غير رسميّ - بترجمته ودراسته.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون