يُعتبَر ديفيد سمايلي (1916 ــ 2009) شخصية معروفة في بريطانيا والبلقان والبلاد العربية لكونه من الجيل الأول الذي انخرط في قسم العمليات الخاصّة (SEO) التي تأسّست بمبادرة من رئيس الوزراء وينستون تشرشل في 1942 للقيام بعمليات خاصة وراء خطوط العدو الإيطالي - الألماني، لإرباكه وإشغاله عن بقية الجبهات. ثم انضم بعد الحرب إلى جهاز الاستخبارات MI6 ليخوض في عمليات الحرب الباردة في أوروبا (بولونيا وألبانيا) والشرق الأوسط، بما في ذلك تولّيه قيادة الجيش العماني في وجه المقاومة المسلّحة بين عامَي 1958 و1961، والمشاركة في تدريب المقاومة اليمنية ضد النظام الجمهوري في اليمن خلال الفترة 1963-1968... إلخ.
وبسبب غنى هذه التجربة في الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة التي تلتها، فقد حرص سمايلي (D. Smiley) على تدوين مذكّراته في عدّة كتب، منها "جندي نظامي وغير نظامي: ذكريات عن النزاع عبر العالم"، الذي صدر في طبعة جديدة عام 2022.
من جبل الكرمل إلى سفوح العراق والصحراء الغربية
كان سمايلي قد تخرّج ضابطاً في "قوّات الفرسان" وأُرسِلَ مع كتيبة خيّالة إلى فلسطين في شباط/ فبراير 1940 على سفينة عبرت المتوسّط مع خيولها لتصل إلى حيفا في جوّ ماطر، حيث استقلّ القطار إلى مقرّ عمله الجديد في طولكرم، الواقعة على سفح جبل الكرمل. كان في هذا المعسكر كتيبة مشاة سابقاً شاركت في عمليات ضدّ ثوار فلسطين، ولكنّ أفراد كتيبته لم يشاركوا في عمليات كهذه، ما ساهم في "إرساء علاقات ودّية بين العرب والجنود البريطانيين" (ص 23).
كان أفراد كتيبته منشغلين أولاً في التدريب، ثم بدأوا بالمشاركة في دوريات مع الشرطة الفلسطينية لتعقّب بعض المطلوبين، ما جعله يكتشف عالماً جديداً. ففي أول دورية شارك فيها تمّ اعتقال ثلاثة عرب، فتعرّضوا إلى تعذيب جسديّ شديد للإقرار بمعلومات عن رفاق لهم. ولمّا أبدى سمايلي استغرابه لمثل هذا التعذيب قائلاً إنه يشبه ما يقوم به الغستابو في ألمانيا، ردّ عليه قائد الدورية البريطاني بأن هذا الأسلوب هو المناسب لانتزاع الاعترافات، وكشف له "القاعدة الذهبية" التي يتّبعها: "اعتمدتُ ألّا أضرب أي شخص بنفسي، بل أترك الشرطي العربي يضرب العرب والشرطي اليهودي يضرب اليهود"، بينما تبقى النساء خارج الاستجواب والتعذيب (ص 26).
بعد التدريبات اليومية كان يحلو لسمايلي وجنوده الذهاب إلى بيّارات البرتقال في حيفا، حيث كان الملّاكون العرب يسمحون بطيب خاطر أن يأخذوا ما يمكن حمله. كان إنتاج البرتقال وفيراً، ولكنّ النقص في العمالة والتصدير أدّى إلى تدنّي أسعاره، حتى كانت الألف برتقالة تبُاغ بجنيه، بينما كانوا هم يحمّلون الشاحنة العسكرية بمثل هذا المبلغ (ص 27).
بين التدريبات، كانت إجازات نهاية الأسبوع متنفّساً، سواءً إلى القاهرة "التي كانت مكاناً رائعاً للشباب"، أو إلى بيروت حيث ينزلون في "فندق جورج الخامس" ويقضون النهار برفقة الشابّات الفرنسيات، لينتهي بهم الأمر في أحد النوادي الليلية. في ظروف الحرب العالمية الثانية المستجدّة/ بدأ سمايلي يرى أنه لا مستقبل لكتائب الخيّالة، وبدأ يهتم بمجال العمليات الخاصّة.
وهكذا أُرسِل في تمّوز/ يوليو 1940 إلى معسكر قرب غزّة للتدرُّب على أعمال التفجير والتخريب وزرع الألغام، ثم أُرسِل إلى الصومال لخوض عمليات خاصّة ضدّ القوّات الإيطالية. في طريق عودته، توقف في القاهرة للقاء القائد العام للقوات المصرية الجنرال أرشي ويفل (A. Wavell)، الذي كان على علاقة عائلية به، فاقترح عليه أن ينضم إلى وحدة كوماندوز كانت في طور التشكُّل في الشرق الأوسط، وأعطاه رسالة توصية إلى العميد جون شرر (J. Shearer)، رئيس الاستخبارات العسكرية. وفعلاً، جاءه الأمر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1940 للذهاب إلى مصر والالتحاق بقوة الكوماندوز الجديدة التي كانت قيد التأسيس، ليشكّل ذلك منعطفاً في حياته العسكرية.
التحق سمايلي بالقوّة الجديدة، التي سميت أولاً "قوة 52" (F 52)، حيث وصل أولاً الضباط لتدريبهم، لكي يقوموا لاحقاً بتدريب المنضمين الجدد. في هذه الأوقات، اندفع الجنرال ويفل في كانون الأول/ ديسمبر 1940 بقواته نحو الصحراء الغربية ليواجه هناك القوات الإيطالية والألمانية، وعاد سمايلي إلى الإسكندرية ليتدرّب مع قوته على العمليات الخاصة (كاقتحام مباغت لجزيرة رودس وغيرها)، ولكن لم "يتحقق أي شيء من هذا". فعاوده الحماس للعمل بعدما سمع أن كتيبته في طولكرم ستشارك مع غيرها في الذهاب إلى العراق لفك الحصار عن قاعدة الحبانية بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني، وهو ما خصّص له الفصل الرابع من كتابه. كما شارك لاحقاً في الغزو البريطاني لسورية في حزيران/ يونيو 1941 للتخلّص من الوجود الفرنسي المؤيِّد لحكومة فيشي بعد أن سمحت للطائرات العسكرية الألمانية الإيطالية بالتموضع في سورية، وهو ما خصّص له الفصل الخامس، في حين خصّص الفصل السادس لعودته إلى الصحراء الغربية بعد أن بدأ الجنرال إرفين رومل بتحركاته لتهديد الوجود البريطاني العسكري في مصر وصولاً إلى معركة العلمين.
في غضون ذلك ذهب سمايلي في إجازة إلى القاهرة حيث التقى صدفة بصديقه بيلي مكلاين (B. McClean) الذي أخبره عن رغبته في أن ينضم إليه ضمن قوة جديدة برئاسته تقوم بإنزال مدربين وراء خطوط العدو في البلقان لتنشيط حركات مقاومة هناك، فوافق بحماس ليصبح بذلك اسماً معروفاً في غرب البلقان، وهو ما خصّص له عدة فصول في القسم الثاني من الكتاب.
من مساعدة الحزب الشيوعي إلى العمل لإسقاط نظامه
بدأ هذا الانعطاف في ليلة رأس سنة 1943 حين وصل إلى القاهرة للالتحاق بالقوة الجديدة التي أصبحت تُدعى MO4، وعُرفت لاحقاً أنها فرع الشرق الأوسط لإدارة العمليات الخاصة (SOE) التي أمر تشرشل بانشائها في 1942 للقيام بعمليات خلف خطوط العدو. كانت قيادة هذه القوة الجديدة في القاهرة بعمارة رستم، وكانت النكتة الشائعة أن معظم سوّاقي التكسي في القاهرة يعلمون أن هذا هو مقرّ قيادة المخابرات البريطانية السرّية، المعروفة بـBSS (ص 105).
كانت المهمة الأولى الموكولة له التسلّل إلى ألبانيا (التي كانت تحت الاحتلال الإيطالي) ضمن بعثة بقيادة صديقه مكلاين والتواصل مع أية مقاومة مسلحة مستعدة للقتال ضد القوات الإيطالية. وكانت الباحثة البريطانية المعروفة بتخصصها في ألبانيا، مارغرت هسلوك (M. Hasluck)، التي تم تجنيدها لاحقاً للجهاز، قد ذكرت له أربع شخصيات تقود مجموعات مغاوير (عباس كوبي وبابا فايا ومسلم بيزا ومحرّم بايراكتاري)، ولذلك كانت مهمة البعثة أن تتسلل إلى ألبانيا وتتواصل مع هؤلاء وتمدّهم بالسلاح والعتاد والتوجيه حتى تتكوّن مقاومة فعّالة ضد القوات الإيطالية.
ونظراً لأن التسلل كان من خلال شمال اليونان الذي كان تحت سيطرة قوات EAM/ELSA اليسارية، فقد تولّت وحدةٌ منها توصيل أول بعثة بريطانية إلى جنوب ألبانيا لوحدة ألبانية تابعة للقوة المسلحة للحزب الشيوعي الألباني، الذي رحّب بها واستفاد كثيراً من مساعدتها بالسلاح والعتاد لمدّ سيطرته على ألبانيا الجنوبية.
في غضون ذلك كان ضبّاط هذه البعثة، أو الأصدقاء الثلاثة: سمايلي ومكلاين وجوليان إمري (J. Amrey)، قد انتقلوا إلى شمال ألبانيا والتقوا بقادة الأحزاب الديمقراطية المعارضة للحزب الشيوعي، مثل عبّاس كوبي (A. Kupi)، قائد القوة المسلحة المؤيدة للملك أحمد زوغو، وعبّاس إرميني (A. Ermenji)، قائد القوّة المسلحة التابعة لـ"الجبهة القومية" المؤيدة للنظام الجمهوري. كان كوبي ــ الضابط البارز في الجيش الألباني الملكي عشية احتلال إيطاليا ــ متحمساً للقتال، ولكنه قال إنه ينتظر الإذن بذلك من الملك أحمد زوغو الموجود في لندن بعد احتلال إيطاليا لبلده. ولكن وزارة الخارجية البريطانية لم تشأ أن تتواصل معه، سواء لعدم استفزاز الحليف الأميركي (المعادي للنظام الملكي) أو استفزاز الشريك الجديد في جنوب ألبانيا (الحزب الشيوعي). ومع استمرار صمت الخارجية البريطانية، جاءت الأخبار المفاجئة بأن قوات الحزب الشيوعي انتقلت باتجاه الشمال لتقاتل قوات كوبي، لكي تُشعل بذلك الحرب الأهلية بين اليمين واليسار في ألبانيا.
مع هذا التطوّر المفاجئ، الذي أخرج القوى الألبانية عن المسار الذي تريده البعثة البريطانية ــ أي توجيه المقاومة ضد القوات الإيطالية ــ اجتمع الضبّاط أو الأصدقاء الثلاثة مع عباس كوبي، وخلال ذلك جاءت رسالة من مركز العمليات بأن الضابط فكتور سميث (V. Smith) سيأتي مع مشروع سلام يتم الاتفاق عليه بين الطرفين، وهو ما وافق عليه كوبي بينما رفضه أنور خوجا، الذي كان يسعى ــ بفضل الأسلحة التي حصل عليها من البعثة البريطانية ــ إلى مد سيطرة الحزب الشيوعي على كل ألبانيا.
وفي ظل هذه الأوضاع المنذرة بخطر الحرب الأهلية، اجتمع الضبّاط أو الأصدقاء الثلاثة، وأرسل مكلاين وإمري عدة رسائل إلى المركز تطالب بالموافقة على مدّ قوات كوبي بالسلاح، ومنها رسالة إلى وزير الخارجية أنطوني إيدن (A. Eden). ولكن هذه الرسائل لم تصل لأنه تبين أن أحدّ ضباط قوات SEO المتمركزة في مدينة باري قام بتمزيقها. وهنا يكشف سمايلي عن المفاجأة الكبيرة بالقول إنه من المعروف أن قيادة SEO كانت تتألف من عدّة ضباط بينهم شيوعيون معروفون مثل جيمس كلوغمان (J. Klugman)، أو شيوعيون مستترون مثل رئيس الفرع الألباني في SEO خلال ذلك الوقت إليوت واتروس (E. Watros)، وأن معظم أفراد جهاز العمليات الخاصة كانوا يميلون إلى "البارتيزان" (قوات الحزب الشيوعي) تحت تأثير الدعاية ويعتقدون أن قادة اليمين فاشيون (ص 145).
ومع تفاقم الوضع في الحرب الأهلية الجارية، وصل الأمر بقيادة الحزب الشيوعي إلى توجيه إنذار لمكلاين وسمايلي بوقف التعاون مع كوبي وغيره من قادة الجبهة القومية المعارضة للحزب الشيوعي، وتوجيه إنذار له بمغادرة ألبانيا خلال خمسة أيام. ومع تزايد الخطر، وافقت قيادة SEO على سحب البعثة البريطانية، ولكنها رفضت أن تسحب معها كوبي وغيره من قادة الميدان. إلا أن سمايلي أصر وقام بـ"الانسحاب الحزين" من ألبانيا في قارب برفقة هؤلاء القادة الذين سيُعاد اعتبارهم لاحقاً في لندن وواشنطن!
مع انسحاب هؤلاء، تمكّنت قوات الحزب الشيوعي من السيطرة أيضاً على ألبانيا الشمالية حتى عام 1945، الذي شهد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة. وفي هذه الحرب ستتبدل المواقع بسرعة، إذا اتفقت لندن وواشنطن في 1948 على خطة سرّية لتجنيد المعارضين العسكريين والسياسيين للحكم الشيوعي في ألبانيا وإنزالهم في ألبانيا لإثارة مقاومة محلية ضد الحكم الشيوعي، وقد أوكلَت مهمة التدريب فيها إلى سمايلي. ولكن هذه العملية السرية التي استمرت حتى 1951 فشلت لأن كل الذين دُرّبوا وأُرسِلوا إلى ألبانيا كانوا يجدون قوات الأمن الألبانية في انتظارهم بسبب قيام العميل المزدوج كيم فيلبي بتسريب مواعيد وصولهم إلى موسكو، التي كانت تقوم بتمرير ذلك إلى تيرانا مباشرة.
ولكنّ الزمن امتدّ بسمايلي ليشهد بداية سقوط النظام الشيوعي في ألبانيا في 1990، حيث دُعي من قبل الحزب الديمقراطي الذي فاز في انتخابات 1992 إلى زيارة ألبانيا الديمقراطية الجديدة، وقد استُقبل في مطار تيرانا من قِبَل صالح بريشا نفسه، الذي أصبح رئيساً للجمهورية الجديدة، وهو ما خصّص له الفصل الخامس عشر من هذا الكتاب المثير الذي يكشف دور هذا الجهاز السرّي الذي ساعد الحزب الشيوعي الألباني على السيطرة على ألبانيا بين عامي 1943 و1944، ثم حاول، بالتعاون مع المخابرات المركزية الأميركية بين عامي 1948 و1951، زعزعة هذا النظام، كأول محاولة لاختراق "الستار الحديدي".
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري