الحديث بنغمة رثائية عن واقع الكتاب أمر دارج عربياً. في الغالب، يجري تحميل القرّاء، ومن ورائهم كل المجتمع، مسؤولية التخلّي عن التحصيل المعرفي عبر القراءة، وفي مستوى آخر يجري تحميل المسؤولية للدولة وسياساتها، دون الالتفات إلى الوجه الآخر من الإشكالية، وهي المسافة التي ينبغي أن يقطعها الكتاب كي يصل إلى القارئ.
يكفي أن ننظر في مشهد الإصدارات العربية على مدى عقود كي نقف على ثباتٍ (ربما جمود) في الخيارات الكبرى، فلا يزال رهان الناشرين هو ذاته على الأدب، الرواية تحديداً، مؤلفةً بالعربية مباشرة أو مترجمةً، واضحاً على حساب حقول إبداعية متنوّعة. صحيح أن هناك حصّة للفكر والتاريخ والعلوم الإنسانية والمؤلفات السياسية، ولكنها تظل محكومة برهانات أكاديمية معظم الوقت وضمن طيف ضيّق من المواضيع تكون مرتبطة أساساً بما ينشغل به الباحثون لا بما تنشغل به المجتمعات.
إذا نظرنا مثلاً في ما جرى إنتاجه عربياً حول الجائحة العالمية لن نجد الكثير، في حين أن كورونا طرقت أبواب الكثير من المعارف: الطب والجيوبولتيك وتاريخ الأوبئة وعلم النفس وتحليل السياسات العمومية. معظم هذه الحقول لم يكن حاضراً في مرايا الكتاب العربي، وبالتالي حين جاءت الجائحة كان من الطبيعي ألّا تجد حاضنة تأليفية كي تستوعبها وتفسّر ما جرى زمن الوباء. بعد ذلك، حين يحدث أن يكون هناك طلب على كتب تفسّر ظاهرة ملحّة مثل الجائحة، لن يجد القارئ العربي شيئاً يشفي غليله إلا ما جرى الإسراع في ترجمته، وعلى الأرجح عليه أن يعوّل على معرفته بلغات أُخرى كي يُشبع تطلّعه للفهم.
تجد ظواهر حياتنا اليومية صعوبة كي تُكتب وتُقال بلسان عربي
يمكن أن نضرب مثلاً أكثر بساطة. تدور هذه الأيام مسابقات كُرَوية كثيرة، أبرزها "بطولة الأمم الأوروبية" و"كوبا أميركا" (بطولة بلدان أميركا الجنوبية)، ولأن هذه المسابقات تلامس فضاءات مزدهرة على مستوى إنتاج الكتب فهي تتحوّل إلى مناسبات تسويقية ناجحة، تماماً مثل عيد الحب أو ذكرى استقلال بلد ما أو نهاية حرب كبرى. يضع الناشرون في مثل هذه الفترات جدولاً لإصدار كُتب تتقاطع مع المناسبة وهو ما يخلق ديناميكية متواصلة في الإنتاج، فلقد خلقت الرأسمالية روزنامة لا تنتهي من المناسبات وما على الكِتاب - كقطاع اقتصادي كغيره من القطاعات - سوى القفز في القطار الذي تدفعه إلى الأمام محرّكات كثيرة (الميديا، الدوافع الذاتية للقراء...).
في هذه الأيام، قلما تخلو واجهات المكتبات الأوروبية واللاتينوأميركية من عناوين حول كرة القدم. إنها اللحظة المناسبة لتصريف مخزون لم تغذّه الرواية وحدها، بل الكتب الفكرية والتاريخية والمعاجم والكتب المرسومة وغير ذلك من أشكال الكتابة. نعم تتحدثّ كل هذه الأجناس عن كرة القدم، ولا تتحرّج في ذلك. ولن يخفى أنها أشكال تعاني من شح الإنتاج عربياًَ، وبالتالي تجد الظواهر الكبرى التي تعبر حياتنا اليومية صعوبة كي تُكتب وتُقال بلسان عربيّ.
ثمّ ها نحن نرى أن وصول الكتاب لا يحتاج إلى دائرة مغلقة ومكرّرة من المعارض، من المحيط إلى الخليج، بل توجد حلقات مترابطة بين المؤلف والقارئ ينبغي أن تعمل بشكل سلس، يكفي أن تحضر عناصر أساسية مثل انتباه المؤلف للمواضيع الحارقة والمطلوب تفكيكها وإيضاحها، وفطنة الناشر في حسن اختيار لحظة الإطلاق، وحسّ مدرّب عند أصحاب المتاجر يعرف كيف يضع الكتاب أمام من يرغب فيه من القراء أو يغري من لم يكن راغباً فيه.
إنها بيئة متكاملة، آلة تحتاج إلى كل قطعة فيها كي تعمل. عربياً، لا يزال المؤلف - إلا في ما ندر - مترفّعاً عمّا يجول على أرض الواقع من مواضيع وانشغالات، ولا يزال الناشر يطبّق مقولة "ما يطلبه القرّاء"، وهو - أغلب الظن - لا يعرف ما يطلبه القرّاء، بل لعلّ ما يُنشر يقتل جزء كبير منه العلاقة العفوية بين الإنسان ورغباته المعرفية التي يبحث عن إشباعها. كم من الجرائم تُرتكب في حق الكتاب حين نقطع عنه كل فرص التدفّق مع الحياة!