مفكّرة المترجِم: مع علي عبد الأمير صالح

09 اغسطس 2022
علي عبد الأمير صالح
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم "مشاريع الترجمة المؤسساتية مفيدة، إنما تنقصها جودة التوزيع، وحُسن اختيار العناوين، ودقة التحرير" يقول المترجِم العراقي في حديثه مع "العربي الجديد".


■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟ 

- بدأت حكايتي مع الترجمة في العام 1977، في أثناء دراستي الجامعية، حين اشتريتُ نسخة من مجلة "الأدب السوفييتي" من "صيدلية الحضارة" في شارع المغرب ببغداد. كانت هذه المجلة باللغة الإنكليزية، وتحتوي على قصص وقصائد ودراسات نقدية وأحياناً رواية كاملة من تأليف كاتب من الاتحاد السوفييتي السابق. ووددتُ أن أُترجم قصة قصيرة للكاتب الروسي ألكسندر فامبيلوف تحمل عنوان "الطلب الأخير". كانت قصة رومانسية جميلة، أعجبتني حين قرأتُها أوّل مرة، فترجمتها، ونشرتُها في مجلة "صوت الطلبة"، في أيلول/ سبتمبر 1977. 


■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟

- آخر أعمالي المترجَمة المنشورة مذكّرات الكاتبة والناشطة النسوية والمحلّلة النفسانية الأميركية فيليس تشيسلر، وهي بعنوان "عروس أميركية في كابول". والكتاب الآخر رواية "العلاج بالمياه" لـ صوفي ماكنتوش. وهي روائية وكاتبة قصص قصيرة بريطانية. وهذه الرواية باكورة أعمالها السردية وترشحت للقائمة الطويلة لـ"جائزة مان بوكر" (2018). وحالياً أُترجم روايتها الثانية "التذكرة الزرقاء". عالَمُها عالمٌ ديستوبي، تتجلّى فيه القسوة والعنف وكُره النساء، وفي كلتا روايتيها تقفُ صوفي ماكنتوش إلى جانب بنات جنسها، وضدّ اضطهادهن وإيذائهن جسدياً وعاطفياً.  


■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟ 

- أبرز العقبات التي تقف بوجه المترجِم العربي هي عدم تمكّنه من التفرّغ للترجمة على الرغم من أهمّيتها البالغة في التقارُب بين الشعوب، وذلكَ بسبب تدنّي العوائد المادية من هذا العمل المُرهِق والذي يستغرق وقتاً طويلاً. والعقبة الثانية تكمن في بعض النصوص التي تحتوي على كلماتٍ ومصطلحاتٍ، وحتى حوارات طويلة في لغة ثانية غير لغة النص الأصلي، كما في رواية "الجبل السحري" لـ توماس مان. والعقبة الثالثة هي صعوبة النصوص ذاتها وإيراد مصطلحات في المحاسبة والاقتصاد والطب والرياضيات وكذلك بعض الأحداث التاريخية، وهذا ما واجهتُه في رواية "في ضوء ما نعرفه" لضياء حيدر رحمن. لذا لجأتُ للشرح والتفسير ووضع الهوامش.

المترجم كاتبٌ ثانٍ للنص وعليه أن يُحافظ على روحه


■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟

- لا، أنا أعترف بدور المُحرِّر الأدبي والمدقِّق اللغوي، وأقدّر وأحترمُ الناشر الذي يُحيل الكِتاب المُترجَم إلى المحرِّر الأدبي. ونحن نقول عادة: "عقلان أفضلُ من عقلٍ واحد". كلُّ كتاب يُعّد للنشر لا بدّ أن يُقرأ بدقّة وتمحيص، كي يتم تصحيحُ الأخطاء والهفوات التي وقع فيها المترجِم، وأحياناً من دون قصد. لا بدّ أن يكون هنالك مُحرِّرٌ أدبي أو مدقّق لغوي طالما أنّنا نحسّ بالمسؤوليةِ تجاه المُتلقّي، ونحترمُه، ونُريد أن نكسبَ ثقته، ونمتّعه، وننوّره بما هو مفيد. المُحرِّر الأدبي ينقّح بعض الجُمل والعبارات ويُشذّبها، ويجعل الكتاب أكثر سلاسةً للقارئ العربي، ويعزّز رواجه ومبيعاته، بالطبع. 


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟

- علاقاتي جيّدة مع الناشرين، ونحن نتعاون ونتفاعل على الدوام. تارةً يقترح عليّ الناشر ترجمة كتاب ما أو رواية، وطوراً أنا الذي أقترح الترجمة. بعض الكتب اشتريتُها في أثناء رحلاتي إلى خارج العراق، فقرأتُها ووجدتُها كُتباً غنيّة ومفيدة. كتاب "سيرة حياة فريدا كاهلو"، مثلاً، اشتريتُه من باريس، واقترحتُه على الناشر فوافق. المترجم ينبغي أن يعرف أهمية الكِتاب ومكانة الكاتب الأدبية أو الفكرية. حين أًعجبني كتاب "أن تقرأ لوليتا في طهران" لآذر نفيسي، طلبتُ من الناشر خالد المعالي أن يبعث لي كتابها الثاني "أشياء كنتُ ساكتة عنها" كي أترجمه. ولبّى الأستاذ خالد طلبي، وحقّق الكِتاب المُترجَم نجاحاً باهراً.  


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟

- ليست لديّ اعتباراتٌ سياسيةٌ في اختيار الأعمال التي أُترجمها. من حقّ الكاتب، أيّ كاتب، أن يفكّر كما يشاء، ويقول ما يشاء، ويكتب ما يشاء. وليس من حقّنا أن نصادر حرّيته في التعبير. لكلّ امرئ وجهة نظره الخاصة عن العالَم. أنا كمترجم، لا يحقّ لي أن أفرض معتقداتي ونظرتي للعالَم على المؤلّف. لا يحقّ لي أن أمارس سلطتي عليه، أي أن أحاسبه، أو أُحاكمه. لستُ واعظاً، ولا ناصحاً، ولستُ قاضياً أحكمُ باسم الأخلاق أو الدين أو الأيديولوجيا. ولهذا ترجمتُ لـ أوريانا فالاتشي كتاب "حوارات مع التاريخ والسلطة" على الرغم من عدم اقتناعي ببعض آرائها الفكرية.  

ممارستي الكتابة زمناً طويلاً من عوامل إنجازي في الترجمة


■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟

- في الأعوام الثمانية الأخيرة بعد توفّر وسائل الاتصال الحديثة صرتُ أتواصل مع الكُتّاب عبر الرسائل الإلكترونية، وأستوضحهم في ما يتعلّق بالعبارات والجُمل والمصطلحات الغامضة. هذا لأني أريد أن أفسّر كلّ شيء، وأوضح كلّ شيء للقارئ العراقي والعربي. وهذا ما حصل حين تبادلتُ الرسائل مع الكاتبة الإيرانية ـ الأميركية آذر نفيسي، والكاتبة الصينية ـ الكندية مادلين ثين، على سبيل المثال. أما الكُتّاب الذين ترجمتُ لهم وكانوا قد رحلوا عن عالمنا، فلم يكن ذلك ممكناً، بالطبع. التواصل مع المؤلف ضروري ومهم ويُعطي رسالة مهمة للقارئ العربي بشأن دقة عمل المترجم. أحياناً، أُشير إلى الرسائل المتبادَلة بيني وبين الكاتب أو الكاتبة في الهوامش.


■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟

- بدأتُ مسيرتي كاتبَ قصص قصيرة وقصص أطفال في منتصف سبعينيات القرن العشرين. وتمرّستُ في الكتابة القصصية، ومن ثم كتبتُ الرواية والمقالة والنقد. وقرأتُ الشعر والمسرح والرواية والكتب السياسية. في اعتقادي، ثقافتي واطلاعي الواسع وممارستي الكتابة زمناً طويلاً هي عوامل ساعدتني كثيراً في الترجمة. المترجم كاتبٌ ثانٍ للنص الأصلي، ويتعين عليه أن يُحافظ على روحه، وعلى الاستعارات والأشعار والأغاني الواردة فيه. يستوعب معانيه الضمنية، ويكشف جمال لغته، وشاعريته. الترجمة علمٌ وفن، وينبغي أن نقدّم للقارئ أجمل ما في لغتنا، من ناحية اللغة والأسلوب.


■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟

- الجوائز مفيدة ومهمّة وضرورية ليس للمترجمين وحدهم بل للترجمة ذاتها. ما من شعب في العالَم تطوّر من دون الترجمة. الجوائز من شأنها أن تحفّز المترجِم على خوض هذه المغامرة الجريئة، واختيار أعمال مفيدة وممتعة مع أنها تُرهِقه وتُحرمه من مباهج الحياة، بخاصة إذا كان يمارس مهنة شاقة كالطب، في حالتي، تستغرق جلّ وقته وجهده. لكنني أعتقد أنّ الجائزة الأهم هي أن تكتشف أن الكِتاب الذي ترجمتَه قد حقّق مقروئية عالية في العالم العربي، ويُخبرك القرّاء بأنّ ترجمتك رائعة وأسلوبك رشيق، ويكفيكَ فخراً أنك ترجمت هذه الرواية. هذه هي الجائزة التي أنتظرُها، والتاج الذي أشتهي.


■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟

- نعم، الترجمة في أغلب الأحيان مشروع فردي، وهاجس فردي. لولا المتعةُ البالغة التي يشعر بها المترجم في إنجاز عمله هذا لما أقدَم عليه أصلاً. فضلاً عن ذلك، أنا أُترجم كي أطّلع وأتنوّر وأتغيّر، ومن ثم أُغيّر قرائي وأنوّرهم كي يفهموا العالَم، ويعيشوا حياةً أفضل. مشاريع الترجمة المؤسّساتية مُفيدة وناجحة، إنما ينقصُها أحياناً جودة التوزيع على النطاق العربي، وحسن اختيار العناوين، ودقّة التحرير والمراجعة، وجودة نوع الورق والإخراج الفنّي للكتاب المُترجَم، ناهيك عن الإسراع في النشر. "المركز القومي للترجمة"، و"مشروع كلمة"، و"المنظمة العربية للترجمة"، و"دار المأمون" مؤسّسات نفرح ونفتخر بها، بوصفنا قراءً ومترجمين، على السواء. 


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟

- في الترجمة ينبغي أن نحافظ على المعاني وظلال المعاني وأسلوب الكاتب واللغة الشعرية، أحياناً. بالطبع ليس مطلوباً من المترجِم أن يُوضّح ويُفسّر أكثر من اللازم، بل يترك الأمر للمتلقي. وأنا عادة أختار روايات مهمّة وكُتّاباً نالوا جوائز رفيعة المستوى، كما فعلتُ مع توماس مان وجوزيه ساراماغو. ولا بدّ للمُترجِم من أن ينقلَ لون ورائحة وطعم التجربة التي عاشها أو كتب عنها المؤلف. أي أن يعيش المترجِم التجربة ذاتها بكلّ تفاصيلها. هذا ما ستلمسه لو أنّكَ قرأتَ ترجمتي لرواية "العمى". ليست لديّ عادات معيّنة باستثناء أن أستشير المعاجم بعدّة لغات، وأراجع الترجمة بدقةٍ، وأعيد صياغة الجمل والعبارات التي يشوبها الضعف. 


■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟

- لا، ليس لدّي كتاب ندمتُ على ترجمته. مع أنني ترجمتُ حتّى الآن أكثر من خمسة وأربعين كتاباً بين الرواية والقصص القصيرة والنقد الأدبي والحوارات والسير الذاتية والمذكرات والكتب السياسية والفلسفية إلا أنّني لم أندم على ترجمة واحد منها. كلّ شيء فعلتُه في حياتي جاء بعد دراية تامّة وتأمّل عميق. وقتي ثمين وموزّع بين الأُسرة والطبّ والأدب، ولا أُريد أن أهدر جهدي ووقتي في ترجمة كُتبٍ قليلة القيمة في ثقافتها الأصلية، ويقيناً ستكون كذلك عند ترجمتها إلى لغة الضاد.


■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟

- أتمنّى أن تنشط حركة الترجمة إلى اللغة العربية، كي يزداد اطّلاعنا، وتتعمّق معرفتنا بالفكر والثقافة العالميين. مع أنّنا صرنا نسمع بالكتب الحديثة الصادرة في العالَم حال نشرها، ونقرأ متابعات عنها، لكنّ معرفتنا ما زالت سطحية، وترجماتنا قليلة ولا تفي بالغرض، بخاصة في مجال الفلسفة. أتمنى كمترجم أن ينال زملائي وزميلاتي المكانة اللائقة في المَشهد الأدبي والثقافي العربي، ويحصلوا على مكافآت مُجزية عن عملهم المُضني، وألّا يكتفي القارئ أو الصحافي بالإشارة إلى الكِتاب وَكَيلِ المديح للكاتب الأجنبي ناسياً دور المترجم بوصفه كاتباً ثانياً، ولا يُثني على جمال لغته وحسن اختياره للكِتاب أو الرواية.



بطاقة

طبيب وقاصّ وروائي عراقي من مواليد الكُوت (1955). له في الترجمة أكثر من 45 كتاباً منها: "طبل من صفيح" لـ غونتر غراس (2000)، و"الجبل السحري" لـ توماس مان (2010)، و"أشياء كنتُ ساكتة عنها" لـ آذر نفيسي (2014)، و"راوي مراكش" لـ جويديب روي باتاجاريا (2016)، و"أشرطة تسجيل صدام" لـ كيفن أم. وودز (2017)، و"العمى" لـ جورزيه ساراماغو (2018)، و"سيرة حياة فريدا كاهلو" لـ هايدن هيريرا (2019)، و"أمس واليوم وغداً: مذكرات صوفيا لورين" (2020). نال جائزتين في الترجمة من وزارة الثقافة العراقية عامَي: 2000 و2017.

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون