مفكّرة المترجم: مع أحمد الويزي

06 أكتوبر 2022
أحمد الويزي في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "الأدب الحقيقي يُعنَى بالوضع البشري المُعضِل، بمعزلٍ تامّ عن كلّ براغماتية سياسوية ذات أجندة ضيّقة" يقول المترجِم المغربي في حديثه إلى "العربي الجديد"


كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟ 
بدأت علاقتي بالترجمة في المرحلة الجامعية، مطلع الثمانينيات. وما زلتُ أذكر أنّي وجدتُ نفسي في قسم اللغة العربيّة وقتها، أمام موادّ حديثة ومعاصرة يحتاج فهمها إلى بذل جهد كبير، خاصّة دروس اللسانيات والسيميائيات. بالطبع، انفتحتُ على ما ظلّ ينشر عهدئذ، من ترجمات في هذا الباب، إلّا أني لاحظت بأنّ محتوى الكثير من تلك الترجمات، بقي مُغلقاً وأشبه بطلاسم. وقد حفّزني هذا في وقت لاحق، على القيام بانعطافة نحو الأصول الأجنبيّة، في محاولة لاستيعاب بعض النظريات والمفاهيم اللسانية والسيميائية، في لغتها الأم. وأذكُر أنّي ما إن قرأت لأوّل مرّة في حياتي، كتاب فرديناند دو سوسير، حتى تبيّن لي بالملموس بأنّ لسانيات هذا المؤسّس أبعد ما تكون عن ذلك التعسُّر، الذي وجدته في كثير من الترجمات العربية، ما شجّعني على تعريب فصول من الكتاب. وابتداءً من هذا التاريخ، شرعت أُترجِم. 


ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
آخر ترجماتي روايتان قصيرتان: "فمٌ يملؤه التراب" للصربي برانمير شيبّانوفيتش، و"المرافقة" للرّوسيّة نينا بيربروفا؛ وقد صدرتا معاً سنة 2021، عن "دار أثر". أمّا ما أُترجمه حالياً، فبعض القصص القصيرة، التي أنتقيها من الكتابات العالمية.

 

الصورة
غلاف الكتاب

ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
في كثير من الأحيان، أجدُني أعاني في نقل لفظة، أو إيجاد المقابل الملائم لمفهوم معيّن. أو أُخلِص حتى في نقل معنى من معاني عبارات مختصرة. وذلك، بسبب أنّ لغتنا العربيّة في جوانب منها لم تخضع بعد لعمليات التثوير والتطوير اللازمة التي من شأنها أن تجعلها مرنة أكثر، وكفيلة بالابتعاد عن الصلابة والتقعّر وممانعة المطاوعة، سواء ضمن مستواها الصرفي (المورفولوجي) أو التركيبي أو الدلالي. أمّا العقبات الأُخرى، مثل حقوق المترجم الكفيلة بالحفاظ على كرامته، ومشاكل انحسار دائرة المقروئية، وتراجع الاهتمام بالكتاب في أوطاننا، فشأنها عندي أقلّ من شأن العقبة البنيوية الأُولى.      


هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
عموماً، لم يسبق لترجماتي أن خضعت لمراجعة المحرِّر، سوى سنة 2020، حين طلب منّي الناشر دون أن يخبرني بشيء، إلقاء نظرة أخيرة على مسوّدة العمل التي قدّمتُها له، قبل الدفع بها إلى المطبعة. وحين شرعتُ أقرأ، هالني كثيراً ما طاول الترجمة من أشكال العبث، فاتّصلتُ على الفور بالناشر، لأستفسره عن أسباب تلك "التعديلات" المُضافة إلى النص، بغير إذني. حينها، أخبرني بأنّها من المحرِّر، وكانت هذه هي المرّة الأُولى التي أسمع فيها بهذه الصفة. وما هالني أكثر في تجربتي الأولى والأخيرة مع المحرِّر، أنّ صاحبنا وقع في أخطاء نحوية وهفوات إملائية أكثر من معيبة، كادت أن تؤثّر سلبيّاً على محتوى العمل المترجَم. لذلك، لم يكن أمامي من خيار آخر، غير مطالبة الناشر باستبعاد دور المحرِّر، والاقتصار على ما أراه، وأتحمّل فيه شخصياً المسؤولية. هذه هي المرّة الوحيدة، التي تقاطعتُ فيها مع دور المحرِّر، ولم يكن هذا التّقاطع للأسف، مثمراً ولا مشجّعاً.

علاقة الكاتب والمترجِم بداخلي تراوح بين الودّ والتأزّم 
 


كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
قطعَتْ علاقتي مع الناشر، بخصوص مسألة اختيار الترجمات، شوطين اثنين: كانت فيها كفّتُه في الشوط الأول هي الراجحة، بحكم أنه هو من اقترح عليّ بعض العناوين (عنوانَين فقط من عناوين دوستويفسكي: "مذكّرات قبو" و"الفقراء")، لكنّي في ما بعد انتصرتُ لنصوص عديدة، قَبِل بها أغلبُ الناشرين، بحكم أنّها استثنائيّة وفارقة. ولا ينبغي أن تفوتَني الفرصة لأوضّح في هذه الباب، بأنّي قارئٌ أكثر منّي كاتبا ومترجما. ومن ثمّ، لا أقترح للترجمة إلّا النُّصوص التي عادةً ما أتفاعل معها، وأقتنع بأهمّيتها. أما أغلب ما اقترحه عليَّ الناشرون فرفضتُه، لأنّه عادة ما لا يجد هوىً في نفسي.     


هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
أشرتُ سابقاً إلى أنّ أغلب ما أختارُه للترجمة، يجد أولاً هوىً في نفسي، ويجعلُني مقتنعاً بأهمّيته الأدبيّة، وقدرته العالية على الإمتاع والإقناع، بفعل بنائه وما يتضمّنه من معرفة تخييليّة هائلة. ومن ثم، ستلاحظ بأنّي لا أُولي في كلّ ما أقرأه، وأترجمه بالفعل، أيّة أهمية للبُعد السياسي البراغماتي والضيق. ما يعنيني في الدرجة الأُولى والأخيرة، هو الجانب الجمالي القائم على صرح معرفي تخييلي استثنائي، سواء كان النصّ من توقيع كاتب يميني، أو يساري، أو حتى لا منتم! إنّ الأدب الحقيقي هو الذي يُعنى بالوضع البشري المُعضِل، ويطرح باستمرارٍ قضايا البشريّة الكُبرى، بمعزلٍ تامّ عن كلّ براغماتية سياسوية ذات أجندة وحسابات ضيّقة.
 
 

الصورة
غلاف الكتاب

كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
ترجمتُ للموتى، مثلما ترجمتُ للأحياء! وإذا كانت علاقتي مع دوستويفسكي وشيبّانوفيتش منقطعة، فهي غير ذلك مع بعض الكُتّاب المعاصرين. إذ إنّي كلّما تأثّرت بنصّ نصيص، أسعى جاهدا للاتصال مع صاحبه، من أجل أن أقترح عليه التّرجمة إلى العربية. وفي كثير من المرّات، يسعد هؤلاء الكُتّاب، ويشجّعونني على الاستمرار في هذه المغامرة الشيّقة. وقد حصل لي هذا مع إيريك إيمانويل شميت الذي ترجمتُ له نصَّين، ومع إدواردو أنطونيو بارّا الذي ترجمتُ مجموعته القصصيّة الرائعة: "نهايات اللّيل"، ومع غازميند كابلاني الذي ترجمتُ له "مفكّرة عابر حدود". 


كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
العلاقة بين الكاتب والمترجِم بداخلي، ودّية ومتآخية حيناً، ومتأزّمة وغير متصالحة في أوقات أخرى. ففي الوقت الذي أنخرط فيه ضمن مشروعٍ إبداعي مهمٍّ وطويل، يتراجع بداخلي حيّزُ المترجِم، ويتقلّص إلى أبعد حدّ ممكن، لأنّ الإبداع يقتضي نوعاً من الأثرة والاستئثار. لكن، حين أترجم، ولا أكتب أدباً، يسعف الأديب فيّ رديفَه المترجم، فيتعاونان معاً من أجل التوصُّل إلى ترجمة أدبيّة، تكونُ في نفس الآن بديعة. ولهذا السّبب بالذات، رفضتُ عدّة مقترحات ترجميّة مُجزية ومغرية، جاءتني أثناء اللحظات التي هيمن فيها عليّ الإبداع الأدبيّ، من طرفِ جهاتٍ ناشرة كثيرة، قصد التفرّغ للكتابة الأدبية فقط.
    
 

لا أقترح للترجمة إلّا نصوصاً أتفاعل معها وأقتنع بها


كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
لستُ معنيّاً بهذا الموضوع. كلُّ ما يهمّني، هو أن أجد الوقت الكافي، والجهد النفسي والذهني أيضاً، لترجمة بعض النصوص الأدبية الهائلة. وحتى أُرضي فضول البعض، أقول إني اقتنعت منذ أكثر من سنتين بالانقطاع عن المسابقات والجوائز. ومن ثمّ، لم يعد يهمّني تهافت الغير وراء الجوائز، ولا الجري اللاهث خلفها في كلّ مكان، مع ما يقتضيه ذلك من تجييش للصحب والأصدقاء، بقصد الحصول عليها. إنّ الجوائز الحقّة بالنسبة لي، هي ما يتوّجك به القرّاء من محبّة وتقدير ودعم: قرّاءٌ غير مداهنين ولا مجاملين، ولا تربطك بهم أيّة علاقة شخصية. 


الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
قبل الحديث عن مشاريع الترجمة المؤسساتية، لابدّ من الإشارة ولو بعجالة، إلى أنّ الترجمة لدى بعض الأفراد قد صارت اليوم، "مشاريع" فوضوية قاتلة. فقد قُيّض لي الاطّلاع على ما يسميه البعض "ترجمات"، ضمن عملية مراجعة طُلبت منّي، فوقفت على أخطاء فادحة وفظاعات شنيعة في حقّ النصوص. أمّا مشاريع الترجمة المؤسّساتية، فتبدو في نظري عملية ناقصة، لأنّها تقتصر على بعض الأكاديميين دون غيرهم، كما أنّها لا تنفتح سوى على النّصوص الفكرية والعلمية، بينما النصوص الأدبية والفنّية فغالباً ما تبقى مغيّبة.


ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
المبدأ الرئيسيّ في عملي كمترجم، هو العمل على البقاء ما أمكن وفيّاً ومُخلصاً للنّص المترجَم عنه. لذلك، تقتضي منّي عملية الترجمة، أشواطاً عدّة من المفاوضة، حتى تقول ترجمتي نفس الشيء تقريباً، كما في النص الأصلي. أما عاداتي، فتقتصر على مراجعة النسخة المُترجمة لأكثر من ثلاث مرّات، وعدم الإسراع بنشرها بمجرّد ترجمتها. فمجموعة "نهايات اللّيل" بقيت في درج مكتبي أكثر من عامين، وأنا أنقّح وأعدّل فيها، قبل أن أعرضها على الناشرين، ولم تُنشر إلّا سنة 2020، أي بعد ستّ سنوات من ترجمتها سنة 2014.


كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
ليس هناك أيّ كتاب ندمت على ترجمته، وإنّما أعتزّ بما أعرضه على النّاشرين، فيلقى صدى لدى القرّاء، مثل رواية "طائفة الأنانيّين" لإيريك إيمانويل شميث، و"الممانعة" لإرنستو ساباتو، و"فمٌ يملؤه التراب" لبرانمير شيبّانوفيتش، وغيرها.


ما الذي تتمنّاه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
فوق مكتبي اليوم عدّة عناوين روائيّة، أتمنّى أن تسعفني الصحة والوقت لترجمتها؛ وهي من الأدب السلافي، ولكُتّاب غير معروفين بعد، في العربية. أمّا بالنسبة للحلم، ولو تحدّثنا على مستوى شخصي قليلاً، فأحلم بعمرٍ مديد وصحّة نفسية وذهنية معتدلة، حتّى أتمكّن من إنجاز ما أطمح إلى إنجازه. 


بطاقة
كاتب ومترجم مغربي من مواليد تارودانت عام 1962. صدر له في القصّة والرواية أعمالٌ عديدة منها: "صدرُ الملاكم" (2003)، و"حمّام العرْصة" (2006)، والملك يموت مرّتين (2019)، و"نكاية في هيراقليطس" (2021). وفي الترجمة: "حاشية على اسم الوردة" لأمبيرتو إيكو (2010)، و"حوارات بوينس أيريس لخورخيه لويس بورخيس وإرنيستو ساباتو" (2018)، "فم يملؤه التراب" لبرانمير شيبّانوفيتش (2021)، وغيرها.
 

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون