مفكرة المترجم: مع ميساء العرفاوي

22 اغسطس 2023
ميساء العرفاوي
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "تجذبني النصوص التي تركّز على العمق النفسي للشخصيات. ولعلّ القرّاء يجدون نقطة تقاطُع بين الكتب التي ترجمتُها"، تقول المترجمة التونسية لـ"العربي الجديد".


كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
تُمثّل صلتي بالترجمة لحظةَ تفاعُل بين عشقي للغتَين العربية والإنكليزية. وإذا كان مساري التعليمي بالإنكليزية، فإنّ العربية هي اللغة التي ظلّت تسكنني، وهي لغةُ قراءاتي الإبداعية وكتاباتي الخاصّة. محطّتي الأُولى في الترجمة، بالمعنى الاحترافي، كانت مع مجلّة "بانيبال"؛ حيث ترجمتُ إلى الإنكليزية فصلاً من رواية "لافازا" للكاتب ورفيق الدرب شفيق الطارقي. بعد ذلك، بدأتُ الترجمة إلى العربية مع رواية "فوضى الأحاسيس" للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، والتي نالَت استحسان القرّاء؛ ما حفّزني على المضي قُدُماً في مشروعٍ أطمح لأن يكون متميّزاً، وأن يحمل نبرةً خاصّة؛ فالترجمة، فضلاً عن كونها وعياً بلُغتين، تُمثّل جُزءاً من كياننا ومن أسلوبنا الخاصّ.


ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجمين الآن؟
بعد "فوضى الأحاسيس"، ترجمتُ رواية "سيّدة تائهة" للأميركية ويلّا كاذر، ثمّ رواية "قلعة زرقاء" للكندية لوسي مود مونتغمري؛ هذا العمل الفريد الذي حبّبني في كاتبته وفي عوالمها السردية البسيطة والعميقة في الوقت نفسه، لملامستها حقيقة ما في الذات البشرية من نزعات دفينة ومن رؤى وتطلُّعات، بما يختزل إنسانية الإنسان ويُقدّمها بكثير من العفوية والشفافية والانسياب. حالياً، أعمل على ترجمة نصّ آخر للكاتبة نفسها.


ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
من البديهي أن تكون لكلّ فعل ثقافي عقبات. ولعلّ أشدّ الصعوبات التي تواجه المترجم ما يتّصل بكثرة المترجمين واقتحام البعض مجالَ الترجمة، لا بدافع الرغبة في الإضافة إليه، بل بدوافع مادية كثيراً ما ينجم عنها نصوص مشوَّهة ينخدع بها القرّاء لعدم اطّلاعهم على النصوص الأصلية. وفضلاً عن ذلك، فإنّ المؤسَّسات الراعية للشأن الثقافي لا تُولي الترجمة والمترجمِين ما يستحقّونه من عناية، وكثيراً ما تخضع الأمور عندها لمعيار العلاقات، لا لمعيار الكفاءة.

في تونس، هناك ما يشبه إقصاءً للمترجِمين من غير الفرنسية


هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمّة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
نشرتُ كتبي المترجَمة في "دار مسكيلياني"؛ وهي تُخضع النصوص، سواء المكتوبة بالعربية أو المترجَمة، إلى المراجعة والتحرير، أيّاً كان صاحبها أو مستواها. وعليه، فمن الطبيعي أن تَخضع ترجماتي للمراجعة والتحرير. من الضروري، هنا، التواصُل البنّاء مع المُراجع والمحرّر حتّى يخرج العمل بأفضل شكل ممكن. وأشير هنا إلى أنّ تحرير ترجماتي لا يُمثّل تحويراً جوهرياً، وإنّما يتعلّق ببعض الأمور الشكلية والتركيبية، بغرض التجويد لا الإصلاح. لا يوجد عملٌ كامل، ولهذا لابدّ من عين ثانية.


كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
أعتبر نفسي محظوظةً بالتعامُل مع دار احترافية وناشر مثقَّف هو شوقي لعنيزي؛ سواء على مستوى الاختيارات أو على مستوى المعاملة ببُعدَيها الأدبي والمادّي؛ إذ ثمّة صلةٌ حوارية بيننا قبل انتقاء العمل وأثناء الاشتغال عليه؛ فالعلاقة، بقدر ما فيها من حُسن إصغاء وتواصُل، تقوم على الالتزام الزمني والعملي. الحوار هو سرّ النجاح، ومن خلاله يجري الانتقاء بما يوافق ميولاتي. وقد باتت عند ناشري قدرةٌ على توجيهي إلى نصوص تنسجم مع ذوقي الخاصّ وأسلوبي الشخصي، ومع العوالم التي يمكن أن أتفاعل معها أكثر من غيرها، فأنا شغوفة بالسرد المنساب الذي تتركّز فيه الرؤية على العمق النفسي للشخصيات. ولعلّ القرّاء يجدون نقطة تقاطُع بين الكتب التي ترجمتُها.


هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمينها، وإلى أي درجة تتوقّفين عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
الاعتبارات التي تُحدّد اختياراتي هي جماليةٌ بالأساس؛ لأنّ الكتابة فعلٌ إبداعي قبل كلّ شيء. في ما ترجمتُ، إلى الآن، لا توجد أبعاد سياسية بالمعنى المباشر للكلمة، لأنّها نصوص ينصبّ اهتمامُها على الإنساني. بحُكم تكويني، وبحُكم ما نحتُّه لنفسي من رؤى. يهمّني أن أحتفي بما يُمثّل الإنسان أيّاً كان دينُه أو عرقه أو توجّهُه السياسي؛ فالأدب رسالةٌ كونية تذوب فيها الفوارق. وطبعاً، لن أرضى بأعمال تنادي بالكراهية أو تُمجّد وجهات نظر غير إنسانية، سواء باعتباري مترجِمة أو متلقّية.

ثمّة ترجمات مشوَّهة تخدع القرّاء لعدم اطّلاعهم على الأصل


كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجمين له؟
المترجم قارئ بالأساس، ومتى اطّلع على النصّ في لقاء أول، فإنه يعايش ما يعايشه كلّ قارئ من أحاسيس، سواء إزاء الكاتب أو الشخصيات والأحداث. بالنسبة إليّ، صلتي بالكاتب وعوالمه تبلغ درجة التماهي الذي يتجاوز مجرَّد الإعجاب، وقد حدث لي الأمر مع زفايغ في مرحلة أُولى، ثمّ وجدتُني أعيش الحالةَ بشكل أعمق مع لوسي مود مونتغومري التي سكنتني عوالمها وأدهشني ما في أسلوبها من عمق وسلاسة.


كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
المترجم العربي، سواء كان كاتباً بمعيار الإصدارات والحضور الثقافي أو كاتباً لم ينشر بعد، يمتلك بالضرورة أسلوبه الخاصّ الذي يمثّله؛ فالأسلوب هو الإنسان بعبارة بوفون. ومن بين المترجمين العرب من عُرف شاعراً؛ مثل سعدي يوسف وآدم فتحي، ومنهم من عرف كاتبَ رواية، ومنهم الناقد والمختصّ في الفلسفة.

وفي ما يخصّني، فإنّني كاتبةٌ قبل أن أكون مترجمة، رغم أنّني لم أقْدِم على النشر الإبداعي بعدُ. وأجد حقّاً أنّ أسلوبي الكتابي يُلقي بظلاله على ترجمتي، غير أنّني أُحاول أن أتصادى مع أسلوب الكاتب الأصلي، ومع روح اللغة المنقول عنها، وما يُميّز المرحلة التي كُتب فيها النصّ من عناصر ثقافية وحضارية؛ إذ على المترجِم أن يمزج بين هذه الأبعاد، وألّا يطغى على ترجمته أسلوبُه الشخصي أو المجالُ الذي جاء منه إلى الترجمة.

إثبات المُترجِم العربي لوجوده الثقافي يبقى فعلاً فردياً


كيف تنظرين إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
ثمّة العديد من الجوائز المعنيّة بالترجمة على المستويات الوطنية والعربية والعالمية، وهذا مُحفّز في حدّ ذاته، رغم يقيني أنّ المترجم يجب ألّا تقتصر غايته على ما هو مادي. الجوائز المتوفّرة تتفاوت من حيث القيمة المالية والأدبية، ومن حيث النزاهة وكفاءة اللجان. ومن الإشكالات المطروحة، في تونس مثلاً، إيلاء الأهمّية لما هو منقول عن الفرنسية، وتكوينُ لجان عارفة بهذه اللغة دون غيرها، وهو ما يمثّل إقصاءً للمترجِم عن الإنكليزية وغيرها.


الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظرين إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
رغم وجود مؤسَّسات رسمية وخاصّة معنيّة بالترجمة، فإنّ إثبات المُترجِم لوجوده الثقافي يبقى فعلاً فردياً. ورغم ما في هذه الفردية من سلبيات، فإنّها تَمنح المترجِم حريةً أكبر. نلاحظ، أحياناً، عدم معرفة تلك المؤسّسات بالمترجمين، أو عدم التواصل معهم، واقتصارها على أسماء بعينها. ومثلُ هذا نجده في تونس مع "معهد تونس للترجمة" الذي يشتغل بشكل منفصل عن الحراك الثقافي، فضلاً عن الجوانب البيروقراطية والمالية التي تُنفّر المترجمين. ولكنّ هذا لا ينفي وجود مؤسَّسات عربية، في الخليج خصوصاً، تعمل بإيقاع أنجع وأسرع. لم أتواصل مع هذه المؤسَّسات، ولكن سيكون من باب الانفتاح والتنويع التعامُل معها متى سنحت الفرصة.


ما هي المبادئ أو القواعد التي تسيرين وفقها كمترجمة، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
أتعهَّد النصَّ المقترح للترجمة بالقراءة والامتلاء به، ثمّ أعمل بعد ذلك على الترجمة وفق خطّة زمنية محدَّدة، وذلك بالالتزام بترجمة عدد معيَّن من الصفحات أو الكلمات. ولكنّ ذلك لا ينفي خضوع الأمر للمزاج أحياناً، أو تأثُّره باليومي، وبالتزاماتي العملية والعلمية والاجتماعية؛ فأنا لستُ متفرّغةً تماماً للترجمة، بحُكم عملي في التدريس، وبحُكم أنّي باحثةٌ في اختصاصي معنيّةٌ بمقالات محكَّمة وبندوات. ولكنّي، رغم هذا التعدّد، أمنح الترجمة ما تستحقّه من وقت، وأُراوح بين العمل في البيت أو في المقهى لما يتجاوز أربع ساعات في اليوم.


كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
لم يحدث أن ندمت على نصّ ترجمتُه؛ لأنّني، كما تقدَّم في الذِّكر، أشتغل على ما أُحبّ، سواء في ما نقلت إلى الإنكليزية من نصوص تونسية وعربية، أو ما نقلته إلى العربية من روايات أحببتُها وتفاعلتُ معها. ولا أحسب أنّ ذلك سيحدث، فليس ثمّة ما يُرغم المترجِم على ما لا يُحبّ.


ما الذي تتمنّينه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجمة؟
تحدوني الرغبة أن أُراكم كمّاً من الترجمات إلى العربية، وأن أتميّز فيها. وأنا أميل إلى النصوص الأدبية والسردية أساساً. ليست هناك أسماء بعينها، ولكن الشرط الأساسي هو جودة الأعمال وعمقها الإنساني. وفضلاً عن ذلك، أرغب، بحُكم اختصاصي العِلمي، في ترجمة ما هو فكريٌّ وحضاري، بما من شأنه انفتاح القرّاء العرب على أبعاد جديدة في الفكر الإنساني، كما أطمح للتعامُل مع مؤسَّسات معنيّة بالترجمة ضمن مشروع بنّاء وتصوُّر مشترَك، وأنتظِر فرصتي التي لن تتحقَّق إلّا بمزيد من المراكمة وبالحرص على التميز.

ثمّة نصوصٌ مهمّة في الأدب والفكر المكتوبَين بالإنكليزية، والتصدّي لترجمتها ضروريٌّ لنعرف أنفسنا أكثر بمعرفتنا للآخر. وفضلاً عن ذلك، وبحُكم اختصاصي في الإنكليزية، فإنّ طموحي يتجاوز الترجمة الإبداعية. على المترجم إثبات حضوره بما له من قدرات ذاتية، ولكن المطلوب من المعنيّين بالأمر التنبُّه إلى وجوده، واستثمار ما له من قدرات وتحفيزه.

أعدُ القرّاء بنصوص أجمل وبترجمات أكثر جودة، وسأكون سعيدةً إذا ما وجدتُ من العوامل ما يُثري تجربتي ويُظهرها أكثر إلى العالَم.


بطاقة
مُترجمة تونسية من مواليد 1991، حاصلة على دكتوراه في اللغة والآداب والحضارة الإنكليزية، وتعمل أستاذةً للغة الإنكليزية في "المعهد العالي للغات" بمدينة نابل. صدر لها: "فوضى الأحاسيس" (2019) لستيفان سفايغ، و"سيّدة تائهة" (2019) لـ ويلّا كاذر، و"القلعة الزّرقاء" (2023) لـ لوسي مود مونتغومري. كما ترجمت إلى الإنكليزية نصوصاً لشفيق الطارقي وحسّونة المصباحي وسفيان بن رجب وعقل العويط نُشرت في مجلّة "بانيبال
 

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون