مفكرة المترجم: مع حميد يونس

25 يناير 2022
حميد يونس
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "من الغريب اتّفاقُ المترجمين على نوعية واحدة من الموضوعات، في حين تفتقر الرفوف العربية إلى ترجمات الحقول الأكاديمية"، يقول المترجم العراقي في لقائه مع "العربي الجديد".
 

■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
لا تختلف حكايتي عن غيري من المترجمين، وكأنَّنا جميعنا اتّفقنا على ترجمةِ الكتاب الأوَّل عن طريق المصادفة. فعلى الرّغم من أنَّني بدأتُ الترجمة لمقالةٍ في مجلَّة أو نصّ في موقعٍ إلكتروني، فإنَّ ترجمة الكتاب كاملاً حدثت مصادفةً بينما كنت أُترجم فصلاً من كتابٍ محبّب على قلبي، ولا أدري كيف استمررتُ في ترجمة الفصل تلو الآخر، وعلى هذا النحو كان أول كتاب ترجمتُه.

■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها؟ وماذا تترجم الآن؟
لم يكن حظّي وافراً مثل كثير من المترجمين في التفرُّغ للترجمة كلَّ الوقت، فأنا أعمل في ثلاث وظائف، ما بين دوامي في المستشفى بوصفي طبيباً نفسيًاً، وبين العيادة التي أقتات منها، ومشروع "ترجمة مئة كتاب" الذي أطلقته وزارة الثقافة العراقية في "دار المأمون" لترجمة أحدث الكتب عن العراق والشرق الأوسط. هكذا انغمستُ العامَ الفائت في هذا المشروع، منسّقًا بين لجان التحكيم واختيار الكتب والمراسلات والمترجمين والمحرِّرين والمصمّمين، لعلّي أُسهم في نشر أكبر عددٍ من الكتب في سنة واحدة، لذلك لم أجد الوقت لترجمة أكثر من ثلاث أو أربع صفحات يومياً في أحسن الأحوال. كانت آخر ترجمةٍ منشورةٍ لي كتاب "عقول مرتابة؛ كيف تسهم ثقافة المجتمع في خلق الجنون"، والذي يتناول ثيمة فلسفات الجنون والأوهام ودَور ثقافة المجتمع في بلورتها. أمّا الكتاب الذي أتممته هذا الشهر فكان "الخوف من التهميش؛ البحث عن المعنى في القرن الواحد والعشرين".

■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
الكثير والكثير، أبرزها برأيي أنَّ التّرجمة تعاني من عدم تبنّي دور نشر رصينة، أو مؤسَّسات حكوميّة وغير حكوميّة تُعنى بالتَّرجمة والمترجم على نحوٍ يلائم ما يصبو إليه من مشروع، أو يضمن له وقتاً وأجراً يتناسب مع ما يبذله من عملٍ ومجهود. يحضرني الآن "المجلس الوطني للثقافة والفنون" في الكويت الذي تبنّى مشروع "عالم المعرفة"، أو "المركز القومي للترجمة" في مصر والذي تبنّى مشروع "ميراث للترجمة" أو "دار المأمون" في العراق الذي تبنى مشروع "ترجمة مئة كتاب". مثل هذه المشاريع التي "توظّف" المترجمين وتستقدمهم، تؤمّن لهم اختيار الكتب وتضمن لهم الأجر والقوت والوقت والتحرير والنّشر، وبذلك دوام الترجمة، ووفرة المترجمين.

التّرجمات في العالم العربي تَتبع الموضة وتهمل سواها 

■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
من قال ذلك؟ يذكِّرني سؤالك بالنصّ الأشهر لسلمان رشدي والذي يفترض فيه أنَّ "مصدر كلمة ترجمة، اشتقاقياً، يعود إلى الأصل اللاتيني 'ترادوسيره' الذي يعني النقل إلى حيّزٍ أبعد، لأنَّها تنقلنا إلى مكانٍ أبعد من مكان ولادتنا. إذاً، لا بدّ أنَّ ثمّة اتّفاقاً على أنَّنا سنخسر في الترجمة شيئاً ما، ولكنَّني أتمسّك بفكرة أنَّنا سنربح شيئاً أيضاً". لذلك، أجدُ - ولست لوحدي - أنَّ التحرير جزءٌ من الترجمة، ولا يكون المترجم محترفاً ما لم يُغيّر من النّص ويهذِّبْه ويُعِد خلقه على نحوٍ يلائم قارئ اللغة التي يترجم إليها.

■ كيف هي علاقتك مع الناشر، لا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
قد أختلف عن بعض المترجمين في أنَّني أختار ترجماتي ولا يختارها الناشر لي، أي أنَّني أُرسل ما أُترجمه إلى الناشر ليقبله أو يرفضه. ولا شكّ أنَّ ما أُترجمه لا يلاقي رواجاً كبيراً، مقارنة بالمؤلَّفات الأدبيَّة، لأنَّ مشروعي يقتصر على ترجمة الطبّ النفسي وفلسفات الطبّ النفسي الحديثة. لكنَّني أؤمن بأنَّ القارئ العربيّ قد تغيّر عن ذي قبل، ولا أُغالي لو قلتُ إنَّ القراءات أمست منوَّعة وفسيفسائيّة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.

■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
لا يمكن ترجمة كتابٍ إلّا بعد كسب المأذونيّة ومعرفة المؤلّف ونتاجاته وفكره، قبل الشروع في فعل التّرجمة، وقد يطلب المؤلف إضافة أو حذف أو تقديم شيء ما، لذلك نقرأ في بعض الأحيان في فاتحة الكتاب نفسه بعض المراسلات التي تُكتب بين مؤلّف الكتاب ومترجمه.

■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
علاقة سيّئة جدّاً، فما إنْ تشرع بترجمة كتاب حتى تتورَّط في حمولته وتعقيدات النصوص، بحيث تنسلخ عن أسلوبك ونصوصك الخاصّة مدّة من الزمن. لذلك تبقى حبيس التّرجمة ولا تنفكّ عنها، مع أنَّك تسرق الوقت مراراً كي تكتب شيئاً خاصّاً بك، أو تبحث في فكرة ناضجة في داخلك. وهنيئاً لمن يحقّق الأمرين معاً.

■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
لا بأس بها. أعتقد أنَّ كثرة الجوائز تسهم في زيادة الترجمة وتحسين نوعيَّتها لا العكس. نعم، لا أخفي حرجي من الترشح، لأسباب شخصية وأخرى تتعلَّق بتواضعِ مستوى ترجمتي مقارنة بالآخرين. لكن لا يمكن اتخاذ نفسي نموذجًا للمقارنة. فمن موقع تعاوني مع الكثير منهم، أجد الكثير منهم "يمتهن" الترجمة ويقتات منها، فضلًا عن تفاوُت شخصيّاتهم بين المريد للشهرة أو الأجور أو الثقافة في حدّ ذاتها. لكن على أيَّة حال، أتوقَّع أن الجوائز ستسهم في كثافة الترجمات وتمترُس المترجمين كمّاً ونوعاً، وذلك منجز في حدّ ذاته.

■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية؟ وما الذي ينقصها برأيك؟
يضمن المشروع المؤسَّساتي ثلاثة أمور؛ دوام الترجمة المتجدِّدة والمتنوِّعة إلى العربيّة، والتّرجمة العكسيّة لأعمالنا المهمّة إلى اللغات الأُخرى، ذلك أنَّ الغرب - مثلاً - لا يُترجِم إلى لغاته إلّا المؤلَّفات التي تتوافق مع منطلقاته الاجتماعيّة والسياسيّة فقط. الأمر الثالث أنَّ هذه المشاريع تضمن الدعم غير الربحي لاختيار أعمال في كلّ حقلٍ في السنة نفسها. ما ينقص هذه المشاريع أنَّها تفتقر إلى الإدامة، لذلك دائماً ما تجدها عجولة، وطارئة، وغير متجدِّدة. وفي أحسن الأحوال، فإنَّ الاختيارات تعود إلى فردانيَّتها مع الوقت، ولا تستمر في الكثافة التي بدأت بها.

القارئ العربي تغيَّر وقراءاتُه أمست أكثر تنوُّعاً

■ ما المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم؟ وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
لا أتوقع أنَّ العادات والقواعد تختلف بين المترجمين كثيراً. الترجمة فعل احترافي متّسق، يلتزم نسقاً وقواعد واشتراطات، لا أن تبحث عن عادات الترجمة "التسع" أو كيف تكون مترجماً في خمسة أيام. أنا شخصياً أقرأ الكثير عن خبرات الترجمة والممارسات والاصطلاحات لصعوبة تطبيقها، وأستفيد كثيراً من المقالات التي ينشرها المترجمون من واقع تجاربهم وإشكالاتها. لا شكّ أنَّني أُترجم فصل الكتاب في ثلاث مراحل؛ أقوم في المرحلة الأولى بترجمة النصّ كما هو من دون تشذيب وتنقيح، ولا أحاول الآن إلّا تحويل النصّ إلى اللغة العربية. لكنَّني أعيد خلق النصّ مجدَّداً في المرحلة الثانية، على نحوٍ يتقاطع معه كلّ من أُسلوبي وأُسلوب المؤلِّف وأخلطهما بطريقتي. ثم تأتي مرحلة التحرير الثّالثة التي يأخذ الكتاب فيها قالباً متوازناً، وأوحّد الرؤية والمفاهيم والمصطلحات مع ما أصبو إليه وما يصبو إليه الناشر بالطبع.
 
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
لا أتوقَّع أنَّ ثمة مترجماً يندم على ترجمة كتاب بحدّ ذاته. لكنَّني كلَّما أُمارس أكثر، أنسلخ من الذات الترجمانيَّة القديمة، بلا ندمٍ أو ملامة. ولا أتوقَّع أنَّ المترجم يندم على ترجمة نصٍّ ما خلا ترجمات القصائد. لأنّ القصيدة لا ترحم شاعرها، ومترجمها، وحتى قارئها.

■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية؟ وما حلمك كمترجم؟
أَصدقُكَ القول إنَّ التّرجمات في العالم العربي تَتَّخذ طابعاً تسويقياً، بمعنى أنَّها تتناول حقلاً واحداً يشتهر في موضة معيَّنة من دون البقيّة. خذ على سبيل المثال موجة ترجمات الفلسفات ما بعد الحداثويّة، أو التفكيكيّة، أو الوجوديّة، فتستغرب أحياناً اتفاق المترجمين على نوعية واحدة من الموضوعات، في حين تفتقر الرفوف العربيّة إلى ترجمات الحقول الأكاديميّة التي تنشر في دور الجامعات الرصينة، من "أوكسفورد" و"ستانفورد" و"ييل" و"روتلج". أقصد مثلاً، الكتب التي تختصّ بدراسة حقلٍ معيَّنٍ مستقل، مثل الإبادات الجماعيّة، أو التصحّر المناخي، أو التاريخ الفلاني، أو العمارة العلانيّة، وما شابه ذلك من دراسات تخصّصية مقروءة. لو شئت وتابعت مثلي رصانة المؤلفات وغناها ومحتواها لانبهرت وتحسّرت لافتقار مكتباتنا لها. نعم، هذا بالفعل ما أتمنّاه أن يُترجم ويُقرأ في العالم العربي.

المساهمون