مفارقة الرواية

07 اغسطس 2023
مديحة عمر/ سورية
+ الخط -

تُبنى الرواية على مفارقة، تُبنى مِن الشقاق بين الواقع وصورته في الكتابة؛ إذ فيما يَرتهن الواقع إلى قوانين يعرف الإنسان، وربّما يملك وبمقدوره أن يتحكّم بجزء منها. يرتهن الفنّ إلى قيَم عُليا، أسمى من الواقع، وكأنّما قصارى جهد الفنّانين أن يجعلوا الواقع على صورة الفنّ.

في هذا السياق، لا تُوجد رواية أو قصيدة وقفت مع التمييز العنصري، واستطاعت عبور محاكمات الزمن. لا توجد رواية أو لوحة فنّية أجازت العبودية، واستطاعت عبور محاكمات الزمن، لأنَّها بالمبدأ أعمال تشذُّ عن صورة الفنّ التي وكأنّما أراد الفنّان أن يجعل منها صورةً مثالية للعيش؛ حيثُ العدالة والمساواة، وحيثُ التغنّي الدائم بالجمال، وحتى نصوص الديستوبيا تُكتب كي تُحذّر من خلوّ العالَم الذي نحيا فيهِ من قيَم الجمال.

إذاً، تُبنى الرواية على مفارقة، وتُكتب بدءاً من مفارقة؛ فهي فنٌّ يعاند الواقع، ويطمح إلى أن يصير الواقع على صورته. على هذا النحو، يمكن أن يُقرأ الميل العامّ لدى الكُتَّاب لكتابة سيرة المهزومين مقابل الرواية التي يُؤكّدها الواقع والتاريخ الرسمي، وهي رواية المنتصر.

أمرٌ يجده القارئ في مجمل أدب الحرب، وأدب النزاعات المحلّية وأدب الثورات. وكذلك، يميل الكُتَّاب إلى القول إنَّ أدبهم صوتُ مَن لا صوت له، صوت مَن هَمَّش سيرتهم؛ المتنُ الذي غالباً ما تُمثّله وتتحكّم به السلطات. وهكذا، على مفارقة انتصار الطاغية، يؤكّد الأدب هزيمته الإنسانية على مفارقة هَرم الإنسان، وتقدّمه في العمر، وعجز جسده وشيخوخته. يؤكّد الأدب غنى التجربة، ويبحث عن تعاريف جديدة للحب، وعن أساليب جديدة لعيشه. وربما المثال الذي لا يُضاهَى في بناء تلك المفارقة عن العجائز الذين يعيشون الحبّ، هي رواية ياسوناري كاواباتا "الجميلات النائمات". 

منذ هوميروس، ليس الفنّ سوى سعيٍ إلى تثبيت بطولة أخذت تغيب

حتى البُعد التأسيسي في الأدب، يُبنَى على مفارقة. لأنَّ الفن، منذ هوميروس، ليس إلّا لحاقاً بأثر زائل، وسعياً إلى تثبيت بطولة أخذت تغيب. السرد نفسه يرهن الزمن، يؤطّره ويقطعه بما يخدم نموّ القصّة. وهذا بالمبدأ يقع على مفارقة عبور الزمن واسترساله. حتى شهرزاد قصَّت حكاياتها لشهريار، أمام الموت، وقد اقتنصت عبر مهارة السرد فرصتها بأن تعيش أمام مفارقة موتها الذي كان محتوماً.

كما يُمكن للرواية أن تبدأ من مفارقة في المشهد، خاصّةً تلك الروايات التي تقصّ حكاية البشر في الأمكنة، وتدخّلاتهم بسكون المشهد. وقد بدأ ميلان كونديرا روايته "الخلود" من انتباهة، من حركة يد امرأة في المسبح. وتلك التلويحة التي بدأت معها الرواية، التلويحة التي أعلنت فيها المرأة عن وجودها، لم تكن سِوى مفارقة في المشهد، صنعتها المرأة بحركة يدها. 

أكثر ما يخدم فكرة الحياة هو الأدب الذي يروي حكاية عن الموت

خلاصة لمفارقات عديدة، يبدو أنَّ أكثر ما يخدم فكرة الحياة هو الأدب الذي يروي حكاية عن الموت. أكثر ما يخدم فكرة الحرية هو أدب الديستوبيا الذي يُصوّر تحطيم القيود لوعي لإنسان، وكأنَّما في الكتابة استقراء وتحذير من مآلات العيش بصورة ما.

ببنائه لمنطقه ولتصوّراته على مفارقة حادّة، كأنَّما ينشد الأدب الحياة الأفضل. وليس من الغرابة أن يصدِّر الأدب موضوعات الحبّ المكلوم، واستلاب العيش، واغتراب الفرد. ووفقاً لآلية مُركَّبة تريد أن ترفع الواقع إلى صورة الفنّ، فإنَّ هذه الموضوعات تحفّز لدى الإنسان نقيضَها؛ إذ يَرى المرء ما يملك، وأيّ حياة يجدر به أن يعيش. ربّما في هذا إجابة عن سؤال كثيراً ما يُسأل، وهو؛ لماذا كلُّ قصص الحبّ حزينة في الأدب؟ أظن أنَّ في فهم مفارقة الكتابة إجابة ما؛ إذ عبر قصص الحُبّ الحزينة يجرّب الكُتَّاب أن يقولوا لنا: أحبّوا جيّداً.


* روائي من سورية

المساهمون