تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر في إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "ليس الفلسطيني وحده المستهدف في هذه المعركة، إنّما نحن جميعاً من المحيط إلى الخليج"، يقول الروائي والشاعر العراقي مروان ياسين الدليمي.
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- ما يشغلني أن هذه المعركة التي تدور رحاها على أرض غزّة، هي أخطر حلقةٍ من سلسلة هجمات الغرب ضدّ منطقتنا، والتي بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم تتوقّف حتى هذه اللحظة، والفلسطينيون في غزّة اليوم، يقفون وحدهم في هذه المعركة الوجودية، وأنا على ثقةٍ كبيرة بإرادة الشعب الفلسطيني على الصمود رغم شراسة المعركة ودعم القوى الغربية اللامحدود لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وهذه القناعة ليست تفاؤلاً رومانسياً، بقدر ما هي حقيقة يؤكّدها تاريخ النضال الفلسطيني، الذي بدأ مع عز الدين القسام منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
لكنّي في الوقت نفسه أشعر بخيبة كبيرة إزاء الموقف العربي الرسمي، وعلى ما يبدو أننا أمام واقعٍ جديد، تحاول أن تفرضه أميركا والقوى الغربية ومن يتولّى تنفيذ مخطّطات هذا الواقع قوى وأنظمة عربية، وبقدر ما يبعث هذا على الأسى والأسف، فإنه أيضاً يبعث على الشعور بالغضب، بمعنى أن هذا المناخ المحتقن بمشاعر يختلط فيها اليأس بالتمرّد، يحمل في داخله أملاً بمغادرة هذا الواقع البائس، وإذا لم يحدث ذلك، فإن مستقبل العرب سيذهب إلى مصير مجهول.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- أثّر كثيراً، ورسَم ملامحه على تفاصيل حياتي اليومية، فمن الصعب الهروب ممّا يجري في غزّة، لأن النتائج ستترك تداعياتها على مستقبل المنطقة وشعوبها، وعلامات ذلك تبدو واضحة أمامنا، في كلّ الأصوات النشاز التي أخذت تعلو بيننا، هنا وهناك، طعناً وإساءة بكلّ صفحة بيضاء من تاريخنا المقاوم للمحتلّ.
أنا أنتمي إلى جيلٍ تشكّل وعيُه على الإيمان بحرية الشعوب، وكان للأدب الفلسطيني (شعراً وروايةً وخطاباً ثقافياً مقاوماً) أثره الواضح في تكوين ثقافته، فنحن الأجيال التي شهدت ولادة "منظمة التحرير الفلسطينية"، في أواسط العقد السابع من القرن العشرين، ونشعر بقوة انتمائنا لقضية شعبنا الفلسطيني، وهي بمثابة معيار قيمي وأخلاقي، نستند إليه في ترتيب مواقفنا وقناعاتنا وممارساتنا اليومية، ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، توقّفتُ عن نشر ما يتعلّق بأنشطتي الاعتيادية في مواقع التواصل الاجتماعي، احتراماً للدّم الفلسطيني في غزّة، لأنني مدرك بأن هذه المعركة ليس الفلسطيني هو المستهدف فيها وحده، إنما نحن جميعاً، من المحيط إلى الخليج.
يقف الفلسطينيون اليوم وحدهم في هذه المعركة الوجودية
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- تبقى المعركة ثقافية قبل أن تكون عسكرية، والثقل الأساسي في المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي تقع مسؤوليته على الثقافة، رغم أنّ العرب لم يتعاملوا مع هذا الموضوع بجدّية واهتمام، على عكس الصهاينة والقوى الغربية فقد وضعوا كلّ ثقلهم على الحرب في ميادين الثقافة والفنون لتفريغ الوعي وغسْل الأدمغة.
وتكمن أهمية وخطورة العمل الإبداعي، والفعل الثقافي عموماً، في أنه يمتلك القدرة على أن يتحوّل إلى وعي ويقظة وجدانية، إلى ذاكرة حيّة لا تصمد أمامها الأكاذيب والأساطير التي تنسجها ثقافة المستعمِر والمحتلّ. إن أكثر ما يُقلق الأعداء هي الأعمال الإبداعية التي تتوغّل عميقاً في طرح الجوانب الإنسانية للقضية، فليس هناك ما يعادل تأثير الفيلم السينمائي والرواية والقصيدة والأغنية على وجدان ووعي المتلقّي، وبهذه التقنيات الفنّية يُمكن أن تتغيّر قناعات الشعوب، أكثر ممّا تفعله الحروب العسكرية.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- لا أجد بديلاً عن العمل الإبداعي يُمكن أن يمارس دوراً مؤثّراً أكثر منه على المدى البعيد، وهذا هو المهمّ، فنحن ما زلنا نقرأ وبشغف أشعار المتنبّي وأبي تمام وملحمة "غلغامش" وكتابات ديستويفسكي وهمنغواي، هذا لأنها زادتنا في المعرفة، ولا نستطيع أن نستغني عن قراءة الأدب إذا ما أردنا لوعينا أن يبقى يقظاً، مع الإقرار بأنّ العمل السياسي لا يُمكن التقليل من شأنه وفاعليته.
أنتمي إلى جيلٍ تشكّل وعيه على الإيمان بحرّية الشعوب
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- اليوم في معركة غزّة، تعرّت الصهيونية على حقيقتها الوحشية أمام العالم أجمع، وسقطت أكاذيبها التي صنعتها ماكينتُها الإعلامية، وهذا ما يبدو واضحاً في ردود الفعل على المستوى الشعبي في البلدان الغربية، لأنها كانت ملعب الدعاية الصهيونية، ولهذا هي اليوم في مأزق كبير، بعد أن فقَد خطابها مصداقيته، فـ"إسرائيل" التي كانت قد كسبت الكثير من مواقف التأييد، باعتبارها بلداً ديمقراطياً، وسط مجتمع عربي إسلامي "همجي متوحّش"، كما كانت تروّج دعايتها، باتت اليوم صورة للدولة العنصرية التي تمارس أساليب التطهير العِرقي، ولهذا هي اليوم تعيش حالة هستيريا كلّما طال صمود أهل غزّة، لقد خسرت "إسرائيل" وأميركا والقوى الغربية هذه المعركة أمام العالم.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- كنت أتمنى أن ألتقي بغسان كنفاني، فقد تمكّن في وقت مبكّر من أن يستكشف ما يختزنه الأدب من ممكنات لإيصال قضية الشعب الفلسطيني، أكثر من أيّة وسيلة أُخرى، ولهذا استعجل "الموساد" في تصفيته.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- لا مسرّة في هذا الفصل غير أني سأسمّيهِ مطرقة عمياء تدقّ جبهة الشجاعة، ومع ذلك ستبقى الإنسانية مدينةً لكم، فقد وضعتم بصمودكم الأسطوري، النقاط فوق الحروف، ونزعتُم الأقنعة عن كلّ الوجوه المخادعة والمضلّلة، ومهما كانت النتائج العسكرية تبدو ظاهرياً لصالح جيش الاحتلال، إلّا أن الحقيقة تؤكّد بأنّكم المنتصرون لا محالة.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- ازرعوا الأوجاع في كرامة التحف الرخيصة، وانفخوا في جراحكم، فالركون إلى الصمت، والخضوع لسلطة القهر، نتيجتهما المزيد من الكوارث والهزائم.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- مع أن زمن المعجزات قد انتهى، إلّا أنكم آخر المعجزات، فأشجار الزيتون لن تموت في أكفّكم الغضّة، وثمّة ضوء ينتظركم.
بطاقة
روائي وشاعر عراقي. يحمل شهادة بكالوريوس من "كلّية الفنون الجميلة" في "جامعة بغداد". عمِل مُدرّساً للفنون المسرحية ومخرجاً للأفلام الوثائقية. أصدر ثلاث مجموعات شعرية: "رفات القطيعة" (1999)، و"سماء الخوف السابعة" (2010)، و"منعطف الوقت" (2025)، وروايتين: "اكتشاف الحُبّ" (2020)، و"ما تخيّله الحفيد" (2022)، بالإضافة إلى كتابَي: "جاذبية الأفلام" في النقد السينمائي، و"قيامة التأويل" في النقد المسرحي.