- يرى الكاتب أن الفن والأدب يمكن أن يكونا أدوات فعّالة لمواجهة الظلم وإعادة تشكيل الثقافة العربية، مؤكدًا على قوة الإبداع في التغيير.
- يختتم برسالة أمل، مشددًا على أهمية الصمود والمقاومة لتحقيق الحرية وإظهار العالم القوة الحقيقية للإنسان العربي وثقافته.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة، وكيف أثّر في إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "كيف للإنسان العربي أن يُواجه ذاته بعد أن صمتَ وتخاذل عمداً أو قهراً؟"، يقول الكاتب المصري لـ"العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادة على غزّة؟
الهواجس كثيرة، بعضها يخصّ قطاع غزّة وأهله، وبعضها يخصني أنا شخصياً، سؤال متى تنتهي الحرب على غزّة وتمرّ تلك اللحظة الشاحبة؟ يُراودني في كلّ دقيقة تقريباً، أفكّر دائماً في المصير والمستقبل القريب؛ كيف سيعيش أهل غزّة وسط كلّ ذلك الدمار ورُكام الأيام؟ كيف يُمكن أن تنبت زهرة الحياة مرّة أُخرى، بعد أن دهست وحشيّة الاحتلال كلّ شيء وأي شيء في طريقها؟ الهواجس كثيرة، ولكنّي أعتقد أنّ معضلة الهاجس الشخصي أعمق، فالحرب لا بدّ أنّها ستتوقّف في يوم، وستُعاد غزّة كما كانت وربّما أجمل، وسلاسل الشهداء قادمة لتقطف البرتقال وتحمل البنادق، لكن هاجسي الأكثر قلقاً كيف سنعيش نحن بعد تلك المأساة؟ كيف للإنسان العربي أن يُواجه ذاته بعد أن صمتَ وتخاذل عمداً أو قهراً؟ وأخيراً أين يُمكن لنا أن نقف ونرفع رؤوسنا للسماء؟ في الشرق الذي أصبح ساحة للقهر والموت وحقلاً لتجارب أحدث مُنجزات العِلم الإنساني؟ أم في الغرب الذي سقط القناع عن قناعه، وأظهرت الحرب بقايا وجهه الكولونيالي، وازدواجية قيمه الإنسانية والحقوقية.
■ كيف أثّر العدوان في حياتك اليومية والإبداعية؟
تغيّر كلّ شيء تقريباً؛ اختصرت الحياة في سيرة غزّة وأهلها، في كلّ صباح يتكرّر السؤال عن جديد الخبر ومدى دلالته في تلك المعركة العسكرية والسياسية، الاطمئنان على الأصدقاء دائم ما دامت الحرب ماثلة في المشهد، في كلّ لحظة أسأل عن صديق أُهيِّئ نفسي لتقبّل مشاعر فقده أو موت أهله في مجزرة بشعة ودامية، كلّ طُرق أيامي صارت تؤدّي إلى غزّة وحدها ولا شيء غيرها، منذ اليوم الأول للحرب فقدت حياتي الشخصية معانيها ومُتعها القليلة، كيف يُمكن أن تطيب القراءة والكتابة الإبداعية وجريمة محو لذاكرتنا تجري على مرأى من الكون وسَمْعه؟ منذ نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وأنا أسال نفسي عن كيفية ممارسة الكتابة وجدواها في جوٍّ تسكنه رائحة الموت وغبار القصف؟ أعلم جيّداً أنّ الكتابة تنحدر أيضاً من الألَم، لكن ربّما أدركتُ مؤخّراً حقيقة مقولة أن لا رؤية لخائف، ولا يُمكن بحال من الأحوال أن تنبت شجرة الكتابة وتزدهر أوراقها في أرض تُسقى في كلّ يوم بمياه الخوف وترقّب اللحظة التالية، الصمتُ هنا بلاغة، وزادٌ كبير لاستعادة البوصلة الإبداعية وحقيقة الهدف والذات.
المُبدع العربي اليوم في ورطة كبيرة ومُفترق طُرق قاسٍ
■ إلى أي درجة تشعر بأن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
الإبداع مقاومة، هكذا كانت رؤيتي الواسعة للفنّ والأدب منذ اللحظة الأُولى لتعلُّقي بعوالم الجمال، ولكن السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم على كلّ مُقاوم بقلمه كيف يُمكن للمُبدع أن يُسخّر فنّه في خدمة قضية واسعة كالقضية الفلسطينية؟ المُبدع العربي اليوم في ورطة كبيرة ومُفترق طُرق قاسٍ، إننا نحاول أن نكون على قدر الحدث، لكنّ الحقيقة أننا صغار جدّاً بجوار ما يفعله أهل غزّة، كلّ الكتب والأغاني واللوحات الفنّية، كلّ الصُّور الجمالية في عالَم المثقّف العربي تبدو اليوم قزمة بجوار سعي الإنسان الغزّي لإيجاد رغيف خبر أو رشفة ماء، قدرة أهل القطاع على إيجاد الأمل والصبر على ما عاشوه على مدار نصف عام ربما تكون محطّة جديدة في طريق المقاومة الإبداعية، وأنا على يقين بعد أن تضع الحرب أوزارها ستعيد غزّة تشكيل عالم جديد للثقافة العربية المُشتبكة مع القضية الفلسطينية، وستخلق غزّة قريباً ذاكرة مزدحمة بالإبداع العربي، لكنها ذاكرة تتحرّك نحو التحرّر الفعلي بشكل واقعي لا مجرّد شعارات فارغة.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
في ظنّي أنّ كلّ مجالات الحياة البشرية تصبو إلى شرط الإبداع، ولا شيء يُمكن أن يُقابِل الفنّ في قدسيّته وبقائه وخلوده، الفنّ قادرٌ أن يكون بندقيّة ومرثيّة ونَخْبَ نصر، وفي هذا العالَم الجديد الذي تُعيد غزّة تشكيله، سيكون للكلمة الإبداعية ألفَ وجه وألفَ أثر، العالَم الحرّ أعاد اكتشاف نفسه واستيعاب قِيمه، والأجيال الجديدة في العالَم الغربي أدركت أنّ السياسة الغربية تقف على الجانب الخطأ من التاريخ ومن حقوق الإنسان، وهو ما يجب على المُبدع العربي استغلاله، وتحويله إلى وقود يشعل القضية ويحقّق هدفها النهائي، فالحروب العسكرية لن تحسم المعركة، والسياسة فشلت في وضع حدٍّ للمهزلة، ولم يبق إلّا الفنّ وسيلة وطريقاً أمامنا.
تمنحنا الكارثة بارقة لإعادة التأكيد أنّ مصيرنا واحد
■ ما التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
عربيّاً أن يُدرك العرب قوّتهم الحقيقية الكامنة في وجود ما هو متجانس بين أرواح هذه الأمّة، فالحلم قديم والأمل متجدّد، وربما تمنحنا الكارثة بارقة لإعادة التأكيد على أنّ مصيرنا واحد، ونقطتي البداية والنهاية مشتركة، وغربيّاً أن يُدرك الغرب أن الإنسان العربي يستحقّ الحياة والحرّية، نحن لسنا كَمّاً مُهمَلاً في مشرق الكون، ولا أنصاف بشر أو "حيوانات" كما تشدّق وزير الحرب الصهيوني، وأكّدت الدول الغربية الداعمة للاحتلال بشاعة تصريحه قولاً وفعلاً.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
فلسطين مستودع للمقاومة، وفي كلّ عصر هناك أبطال ومُبدعون حملوا القضيّة في حبر الأقلام ورصاص البنادق، فلسطين تنمو وتفيض كلّ يوم بمُبدع ومُقاوم رغم كلّ المجازر، لذا سحائب الأسماء تُمطر في عقلي الآن مئات الأسماء، لكن ما زالت المرأة الفلسطينية المُقاومة البطلة تأسرني، ليلى خالد في صورتها الهادئة المطبوعة في أذهاننا جميعاً، وهي تحمل البندقية وترتدي الكوفيّة وترنو ساهمة، تجعلني أسال نفسي كيف لتلك الفتاة الخَجِلة أن تحمل شجاعة النسور، وتحطّم نظريات العرب القديمة عن "الرجولة" والسيف، أتمنّى أن يُتيح لي القدر شرف لقائها في يوم لسؤالها عن رؤيتها للمعركة، وكيف تفاعلت مع عالم ما بعد 7 أكتوبر؟ وأيضاً سؤالها عن تجربتها الإنسانية الكبيرة وسط جيل مُقاوم عاصَرته وعاشَت معه تفاصيل النُّبل والبطولة.
خلاصنا جميعاً في الخلاص من الصهيونية
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
كلّ الكلمات هنا ضائعة، ولكن لا عزاء لهم ولنا إلّا في قول: صبراً أهل غزة فإنّ موعدكم باحات الأقصى، وفضاء الزيتون في جنين والخليل والأغوار، وما النصر إلّا صبر ساعة.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
خلاصنا جميعاً في الخلاص من الصهيونية فهي أم الشرور في محيطنا العربي.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
الحقّ نافذة يا دارين، نافذة للرؤية والسمع، وسنرى منها قريباً مُروجنا الخضراء وهي حرّة، ونسمع منها وقْعَ خطوات عودة العائدين.
بطاقة
كاتب وباحث موسيقيّ، من مواليد الإسكندرية عام 1992. حاصل على دبلوم الدراسات العليا في العلوم السياسية، بالإضافة لدراسته الموسيقى العربية. نشر العديد من المقالات والأبحاث حول الأدب العربي والتراث الغنائي والموسيقى الشرقية، وصدر له: "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" (2023) الحائز على جائزة الدولة التشجيعية في مجال العلوم الاجتماعية فرع التاريخ والآثار وحفظ التراث، كما شارك في كتابَي "وطن اسمه فيروز" (2023)، و"ذاكرة أكتوبر: تجليّات الحرب في الثقافة المصرية" (2024) مع مجموعة من الباحثين المصريّين.