استمع إلى الملخص
- العدوان على غزة أثر بشكل كبير على حياة الكاتب اليومية والإبداعية، حيث تغيرت أولوياته وقيمه، وأصبحت الصور المأساوية والبطولية القادمة من غزة تهيمن على يومياته.
- يؤمن الكاتب بأن العمل الإبداعي فعال في مواجهة العدوان الصهيوني، مشيرًا إلى دور الفلسفة، السينما، الأغاني، والتواصل الاجتماعي في تشكيل الخطاب العام وزيادة الوعي العربي.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "باتت الصور القادمة من غزّة إيقاعاً وحيداً لحساب الزمن"، يقول الكاتب الجزائري في حديثه لـ"العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- كحالِ كثيرٍ من المثقّفين العرب وحتى الأجانب، أصابتني دهشة عميقة؛ بسبب ردّ فعل المثقّفين الذين تعوّدنا على بياض أيديهم إزاء الوضع في غزّة. مؤخّراً، كنتُ بصدد كتابة مقالة فلسفية موضوعها مقارنة عقدتُها بين فيلسوفَين فرنسيّين قد يكونان الأهمّ في بلادهما منذ قرن كامل: جيل دولوز وميشال فوكو، واستوقفني أنّهما قطعا صداقة عريقة بسبب القضية الفلسطينية التي ساندها دولوز، فيما أبدى فوكو برودة كبيرة إزاءها، ميّالاً صوب "إسرائيل". وفي المحصّلة - كما يقول المفكّر الفرنسي المهم باسكال بونيفاس في كتابه "فرنسا أمام امتحان القضية الفلسطينية": "تستطيع أن تُرتّب المفكّرين جميعاً في العالم بناءً على رأيهم في القضية الفلسطينية؛ إنّها حقّاً مِحكّ العدالة في العالم المُعاصر". ولكنّني متفائل بما يحدث في كلّ مكان من العالم من الوعي بعدالة قضيّتنا.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- في مثل هذه الفترات، غالباً ما يتغيّر سلّم القيَم بشكل عام، ونشرع في مراجعة قيمنا وقناعاتنا، وإذا كنّا نحن المثّقفين نملك أحكاماً ثابتة حول القضيّة التي صارت بحقّ أمّ القضايا، ونملك مقاربات لا تتطوّر إلّا قليلاً - خضوعاً لما يمكن أن يجدّ من مستجدّات أو طوارئ ومن قرارات ووقائع - ولن أُخفي أنّني شخصيّاً غيّرتُ نظام حياتي كلّياً. فجأةً، يصبح العمل على السينما هامشيّاً بسبب هيمنة اللوبي اليهودي على صناعة الرأي فيها، وأيضاً تُصبح روايتك الأخيرة حول قصة حُبّ تدعوك إلى تأجيل موعد إكمالها قائلاً في لا وعيك: "مش وقتها"، ويصبح الاطلاع المؤلم على الصور المأساوية أو تلك البطولية التي تأتي من غزّة هي الإيقاع الوحيد لحساب زمن اليوم.
متفائل بما يحدث في العالم من وعي بعدالة قضيتنا
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- هو فعّالٌ جدّاً. في الفلسفة، والسينما والأغاني والتواصل الاجتماعي وحتى الفنون كلّها. كلّ ذلك يُسهم في خلق جوّ عام، قد يبدو للواحد في عزلته الخائرة أمراً بلا أثر، ولكنّه هامّ جدّاً، وأثره هو نفسه أثر الفراشة الذي في الفلسفة: متناهٍ في الصغر وربما تكون آثاره غير متناهية في الكبر. يعمل كلّ ذلك على صناعة آراء على تشكيل الخطاب. وتشكيلُ الخطابات هو الأرضية التي تُمهّد لاستصدار مذكّرات وتصاريح دولية بإطلاق الصواريخ. صناعة الخطابات هي أهمّ ما يعكف عليه الصهاينة من خلال شراء منابر الإعلام، والهيمنة على محرّكات البحث والبوّابات في الإنترنت. هم واعون بخطر ذلك، والعرب أيضاً صاروا واعين بذلك، وما هو بصدد الحدوث ليس هيّناً.
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- لي نشاطي السياسي خارج الإطار الحزبي. والكتابةُ عندي فعلٌ إنسانيّ بامتياز. وأنا شخصيّاً مقتنعٌ تماماً بأنّ دَور كلّ مواطنٍ عربي وكلّ إنسان في المطلق فعّال، وقد يكون نهائيّاً في دعم جبهة الحقّ. ساهمنا بدعم فلسطين، ولنا أصدقاء نتواصل معهم يوميّاً من الفلسطينيّين، ولنا نشاطٌ على مواقع التواصل الاجتماعي دعماً لهم، كلّ ذلك فعّال جدّاً في تغذية العمل النضالي. "اعلموا أنّكم لستم بمفردكم"، هذه هي الرسالة التي نريد إيصالها إلى أهلنا في غزّة.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- التغيير بطيء، ولكنّه أكيد. كارل ماركس يقول: "كلّ حدث تراجيدي يأتي في التاريخ مرّتين: الأُولى بحدّة ومأساوية، والثانية بخفّة واستحسان". بمعنى أنّ دائرة التاريخ تسير دوماً، وما نستغربه اليوم يصبح غداً شيئاً مألوفاً. سيأتي غدٌ، قريبٌ أو بعيد، يصبح النظام العنصري الذي تفرضه الصهيونية الإسرائيلية على فلسطين شيئاً من الماضي كما هي حال الأبارتايد اليوم، وسيأتي يوم نرى فيه العلم الفلسطيني مرفرفاً على بيت المقدس، وستحطّ طائرات آتية بالحُبّ والفرح والحياة من كلّ مكان على مطار غزّة، وكلّ ذلك سيبدو لنا طبيعيّاً ولا غرابة فيه.
العمل الإبداعي فعال جداً في تغذية العمل النضالي
■شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- الكاتب الفلسطيني الكبير إميل حبيبي. سأحيّيه على أنّه بقي في الداخل، وسأسأله: كيف استطعت المحافظة على الابتسامة يا مولانا؟ وكيف غلب المتفائل داخلك المتشائم؟
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- قريبٌ هو اليوم الذي سأذهب إلى المطار لأركب الخطوط الجويّة الفلسطينيّة صوبَ غزة؛ لأجل لقاء إخوتي... سنقرأ قصائد الحُبّ، لا لشيء إلّا لكي نقول للعالم كلّه: ما زلنا في غزّة قادرين على الحُبّ. وستكون في جيبي حفنة تراب من جبال الأوراس أضعها تحت زيتونة غزاويّة، وأقول لها: كانت الرحلة قصيرة بين الزيتونتين.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- القاعدة الوحيدة في التاريخ هي غياب كلّ قاعدة - كما يقول الفيلسوف الفلسطينيّ الهوى إدغار موران - فالتاريخ قابل للصناعة كلّ يوم. لا تفقد الأمل يا سليل الأحرار ويا حامل لواء الحرية والنور والسلام. الغد مشروع اليوم فلا تحزن ولا تفرح واعمل لغدٍ أفضل وكفى.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- لا توجد كلمات تُضمّد الألم... لم يبلغ الطبّ هذا الحدّ بعد. ولكنّني داخل الكلمات سوف أجد خلف اسمك "دارَيْن": داراً للألم وأُخرى للراحة. داراً نتعرّفُ فيها على الحرب، وأُخرى نمحو فيها كلّ ما عرفناه. داراً للخطأ والبلاهة ثم داراً أُخرى يا دارين لكي نكون معاً، ولكي نكون أقرب إلى الحكمة.
ولكي لا يغلبك الألم سوف نقسمه قسمين: نصفه تحملينه، ونصفه دعيني أحمله عنكِ أيّها الملاك الصغير. هل تسمعين هذا النبض يا دارين؟ هل تسمعينه معي؟ إنّه نبض آلاف القلوب التي تنبض من أجلك، كوني قويةً. ستكون هناك أيام صعبة، لكنّني معك يا دارين. واعلمي ما كان ماما وبابا يقولانه لك دوماً: أنت أغلى شيء في الوجود. كذلك أنت وكذلك ستظلّين.
بطاقة
روائي وشاعر ومترجم وأكاديمي جزائري، يعمل أستاذاً للأدب الإنكليزي في جامعة بومرداس بالجزائر. صدر له خمسة وعشرون إصداراً؛ من بينها في الدراسات: "السيميائية الشعرية" (2005)، و"الرواية الفرنسية المعاصرة" (2005)، و"الدليل السيميولوجي" (2009)، و"معجم السيميائيات" (2010)، و"دراسات في الآداب الأجنبية"(2013)، و"دائرة معارف في الآداب الأجنبية" (2016)، وفي الشعر: "مساءلات المتناهي في الصغر" (2007) و"الرغبات المتقاطعة" (2017)، وفي الترجمة: "عالم جديد فاضل" (2010) لـ ألدوس هكسلي، وفي الرواية: "أمين العلواني" (2008)، و"ساعة حرب ساعة حب" (2012)، و"مخطوطة بيروت" (2023)، و"مدينة القدّيس أوغسطين" (2024).