- تأثرت حياته اليومية والإبداعية بالأحداث، مؤكداً على أهمية الإبداع في مقاومة الظلم وتشكيل وعي الناس، ويعتبر العمل الإبداعي فعل مقاومة.
- يحلم بحياة بسيطة وعالم يسوده العدل والمساواة، موجهاً رسالة لأهل غزة بالقوة والصمود، ويدعو الإنسان العربي للتمسك بالأمل والإيمان بقدرته على التغيير.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "العمل الإبداعي الوحيد الذي يمكنه مواجهة هذه الإبادة هو فعل المقاومة"، يقول الروائي المصري في حديثه لـ"العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- يشغلني سؤال: كيف سأكون بعد انتهاء العدوان؟ بل كيف سيكون العالَم نفسه؟ لا أقصد الانشغال بالتفاصيل اليومية للمأساة، بل أقصد طريقة النظر إلى الحياة والتعاطي معها. هذه المنظومة من القيم والمبادئ والمفاهيم التي ظلّت راسخة في وجدان البشر، إلى أيّ حدّ ستبقى قائمة بعد سقوط الجميع في هذه المحنة الأخلاقية المعقّدة. بأي منطق سنرفع أصواتنا منادين بالحقّ والعدل والحرّية والفداء والشجاعة. خاصة نحن أبناء الثقافة العربية والإسلامية، الذين تشكّل "النُّصرة" والإغاثة، ورفع الظلم، والانتصار للأخوّة، ومقاومة الغاصب جزءاً أصيلاً من تكويننا العقائدي والثقافي، كيف ستستقيم أنساقنا الفكرية وتؤدّي مهمّتها. ثم نحن الكتّاب والمثقّفون والفنّانون كيف سنواصل رسالتنا بعد أن صار علينا أن نحمل عارنا ونمضي.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- مع أوّل بناية سكنيّة قُصفت فوق رؤوس ساكنيها، ومع أول مدرسة ومخيّم ومشفى، صرتُ أعيش مأساتي كاملة، لم يعد من شيء يملك وجداني سوى تفاصيل القصف والمقاومة، في نومي ويقظتي، لم أعد في كامل إدراكي، المأساة تصنع فقاعة من الوهم، تمتصّك وتجعلك أكثر حساسية لكلّ المُثيرات، مهما كانت تافهة، تصبح دموعك قريبة، ومشاعرك هشّة، وردود فعلك كثيراً ما تتجاوز المنطق. أنام بينما شاشة التلفزيون تعرض الأخبار بصوت خفيض، ثم أستيقظ فزعاً على صوت تنبيهات الأخبار العاجلة. باختصار، لم تعُد هناك حياة يومية وأنشطة إبداعية، حتى بشكل رمزي، لم أجرؤ على كتابة مقال نقدي عن رواية أو مسلسل درامي أو أشارك في تكريم أو حفل توقيع أو ندوة مثلاً بينما هناك تراجيديا تدور على مدار الساعة، وبحر دم يسفح.
عبثاً يحاول الاحتلال محْوَ ما صنعته المقاومة في 7 أكتوبر
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- العمل الإبداعي الوحيد الذي يمكنه مواجهة هذه الإبادة هو فعل المقاومة، النثر البليغ والشعر واللوحة العبقرية والمعزوفة المعبّرة كلها تتجلّى في تلك العبوة التي يحملها مقاوم ويلصقها بجسد دبّابة مدرّعة، مقاوم يمكث في حفرة تحت قصف الصواريخ والزوارق والطائرات الحربية لشهور، ينتظر اللحظة التي يلتحم فيها بجسد الدبّابة، هذه ساعته، أما صور الإبداع الأخرى، فدورها يأتي تالياً - حين تتوقّف آلة القتل - لتحاول مجابهة الأفّاقين الذين يحكمون العالَم، بشرط: أن يقدّم هذا الإبداع أشخاص ذوو فطرة سليمة، لم تشوّهها الطموحات الذاتية والرغبات المؤقّتة، والأفكار الشاذّة النابعة من حسابات الربح والخسارة.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- سأختار أن أعمل حطَّاباً في بلد جبلي، أو نجّاراً، أو مزارعاً لا أجاوز حدود حقلي وبئري ودجاجاتي وبهائمي، وربما أنجب أطفالاً، ولن أتعلّم أكثر من القراءة والكتابة الساذجة، القراءة التي تمكّنني من قراءة الترجمات المصاحبة لأفلام البطولة، لكني لن أتابع الأخبار، ولن أُخالط المثقّفين والفنّانين، سأتابع العالَم بقلب طفل، وعقل ساذج لا يُعيد ترتيب الأشياء في منظومة من صنيعته. عقل يصدق أن هذا العالم طيّب وأن الخير يُمكن أن يسود.
يشغلني سؤال: كيف سأكون وسيكون العالَم بعد انتهاء العدوان
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- هُما بالأحرى حلمان، أحدهما فوريّ والآخر مؤجّل، الأول، أن يخترع أحدهم رصاصة بقدرة الصاروخ، ولتكُن رصاصة نووية مثلاً، يذخّر بها المقاومون أسلحتهم، وأن يخترع آخر بندقية "ليزر" قادرة على اصطياد الطائرات الحربية، ساعتها سينتهي العدوان للأبد، وسيلتزم الصهيوني بالقوانين الدولية طالما كان هناك ما يردعه. أما الثاني، فأتمنى أن تندلع ثورة في بلد ما، يقودها رجل ما، يستطيع أن يقنع دول العالم المسلوبة بالانسحاب من الأمم المتحدة، وتشكيل هيئة أخرى موازية ليس لأي من أعضائها حقّ النقض، دول لديها اقتصادها الحرّ تستطيع الدفاع عن نفسها وفقاً لقيم العدل والمساواة.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- ناجي العلي، سأقول له: "تمنّيتُ لو كنتَ بيننا، ترى كيف ستُجيب مَن يصمك بالإرهاب، ومَن سيتّهمك بموالاة منظّمات العنف، كيف سترسم الآن قادة منظمة التحرير الذين يدينون المقاومة، والحاكم العربي الذي يحاصرها، ومَن يزحف وراء التطبيع، أودّ لو أسأله: هل كنت ستشارك في جوائز التطبيع وتكيّف فنّك بما يتلاءم مع سياساتها، كيف كنت ستعيش زمناً تعارض فيه دولٌ عظمى قراراً يقول: "هدنة إنسانية لإدخال الغذاء؟".
لستم وحدكم، لكن من يؤيدونكم محاصَرين ومحتلّين
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- الحياة هي الذكريات، ومن ثم فهي قصيرة، قصيرة جداً، هي بالضبط تلك الدقائق التي يستغرقها الوجدان في اجترار الذكرى، وأنتم عشتم الحياة في جوهرها، واختبرتم تجارب الإنسانية، كلّ الصعاب تمرّ وعزاؤكم أنكم لم تلقوا السلاح وترفعوا الراية. إنكم آخر حصون الرفض والثورة، ومن الجيّد أن خلق الله تعالى حدّاً للألم، مهما كان عمق الجرح ومقدار الفقد فهناك حدّ للألم وحدّ للبكاء؛ من يفقد عزيزاً كمن يفقد أعزّاء، ومن يخسر إصبعاً كمن يخسر ذراعاً. وأنتم لستم وحدكم، لكن من يؤيدونكم محاصَرين ومحتلّين.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- ما يصنعونه بنا منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، هو محاولة محو ما فعلته المقاومة في نفوسنا، يحاولون إعادة تركيعنا، إذلالنا، إقناعنا بأننا عجَزة وبلا مقدرة ولا إرادة، وأنّ ما حدث لا يُمكن تكراره، يحاولون أن ننسى ذلك اليوم بانتصاراته، لكن الحقيقة - حقيقة العربي وجوهره - هي تلك التي ظهرت في السابع من أكتوبر. نحو نصف قرن من محاولات تزييف الوعي وتنمية قيم الاستهلاك، والجهل والتفاهة والرقابة الذاتية الفجّة، وطمس كلّ ما هو حقيقي وجادّ وشراء المثقّف وصناعة الأشباه. أقول للإنسان العربي، إن الجسد لم يمت بعد وهذا هو الدليل، إنما يحتاج إلى صدمة كهربائية حتى يسترد نبضه وتعوده الروح، وذات يوم سينثقب الجدار ليمرّ الضوء.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- أنا أحبّ دارين، لكنّي لا أحبّ أن أقول لها شيئاً، بل لا أحب أن تراني أو تسمع صوتي، وإذا قُدّر لي لقاؤها سأختبئ، الآن على الأقل، لا أعرف شعوري في المستقبل بعد انتهاء الكابوس، لكني الآن أحمل خجلي وأمضغ شعوري بالذَّنب، ذنب أني أتنفّس الهواء الذي يتنفّسه القتلة.
بطاقة
روائي وصحافي مصري من مواليد عام 1977. يعمل مُحرّراً أدبيّاً في عدد من المؤسسات ودور النشر المصرية والعربية، ومؤلّف أفلام تسجيلية ووثائقية. صدر له في الرواية: "خير الله الجبل" (2016)، التي حصلت على المركز الأول بـ"جائزة ساويرس" للرواية، و"وادي الدوم" (2019) التي حصلت على "جائزة نجيب محفوظ" الممنوحة من "المجلس الأعلى للثقافة" عن أفضل رواية مصرية، و"ممرّ بهلر" التي صدرت عام 2022.