تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "العجز الذي ينتابنا يبدو مبرَّراً، ولكن التفاؤل يبقى حاضراً"، يقول الكاتب الأردني الفلسطيني لـ "العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- أعتقد أنّ الأمر يتجاوز كلمة الهاجس التي لا تُعبّر عمّا يكمن في النفس، على الرغم من أنّ التاريخ يفيض بالجرائم التي ارتكبها الإنسان. غير أن تشهد هذا يتجاوز قيمة الهاجس إلى ما يمكن أن ننعته بمحاولة أن تكون جزءاً من معنى ما عبّر عنه الكثير من المثقّفين والأدباء، بمعنى القضية التي تتجاوز مفهوم الالتزام، لأنّ الأخير لا يندرج فقط تحت المفهوم الأيديولوجي تجاه معنى ما، إنّما تجاه المعنى الإنساني الذي نشهد انتهاكه يومياً في ظلّ العجز.
ولهذا فإن انشغالاتي تتمحور حول دور المثقّف في كلّ ما يجري، من إيماني بقدرة الثقافة على التغيير، غير أنّني مشغول أيضاً بالوسائل التي يمكن أن تقوّض فيها الثقافة القيم البالية التي تحيط بنا على المستوى الرسمي. وهذا السؤال الأكبر الذي يتردّد في داخلي: أين يكمن الخلل في علاقة المثقّف بالسلطة وعدم قدرة الثقافة على إحداث تغيير؟ فالقيم الإنسانية التي تؤطّر معنى المثقّف باتت في موقف حسّاس، بل أصابنا الشكّ تجاه هذه المعضلة، فهل الثقافة في مجتمعنا سطيحةً أو ظاهرية، وغير قادرة على تغيير الوقائع، في حين أنّ التاريخ يشهد تحوّلات عميقة نهضت بها الثقافة، ومع فائض هذا الموت الذي يحيط بغزّة وأهلها، فإنّ قيم الأسئلة تبدو في حالة اختلال مرهق للذات.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- لا يمكن إن أُنكر أنّ الأحداث الجارية في غزّة قد أصابت معنى الحياة بصورتها اليومية بالعطب، فالنفس البشرية تكاد تختنق بما يجري، وهذا حالُ الكثيرين في كلّ أنحاء العالم. لقد تكوّن زمن آخر موازٍ، زمن خرجنا فيه من ذواتنا لنعلق بزمن الضحايا، لكنّ فهمنا لمفهوم الضحية لا يمكن أن يكتمل لأنّنا خارج المكان، وما محاولاتي اليومية في الكتابة إلّا للوصول إلى معنى الضحية، وربما بدت كتاباتي الأخيرة، ولا سيما مقالتي الأسبوعية، جزءاً من محاولة فتح كوّة في جدار من العتمة. ولعلّ هذا ما دفعني لإنجاز كتابي "الضحية" الذي استغرق منّي أربع سنوات، غير أنّ معناه الآن بات جزءاً من محاولتي للبحث في تمثيل الضحية على المستوى الأدبي.
لعلّ القراءة والكتابة لم تعُودا سوى هامش للحدث
ولعلّ القراءة والكتابة لم تعُودا سوى هامش للحدث... للبحث عن أسئلة أو إيجاد الأجوبة، وبينهما أنت مضطرّ أن تمارس دورك اليومي والاعتيادي، ولكن العقل تجمّد، وبات الجسد جزءاً من دائرة تُسمّى الحياة التي نفقدها في مكان آخر.
■ إلى أي درجة تشعر أنّ العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- كما سبق أن أشرت في السؤال الأوّل، التغيير يكمن في الثقافة، وما يحيط بنا بكلّ تفاصيله الصغيرة إحالات ثقافية مهما حاولنا أن نضع لها عناوين أُخرى. في مقولات ميشيل فوكو عن اللغة، ثمّة إشارة لامعة قوامها أنّ الوجود في النهاية ليس سوى تجسيد للغة، أو العكس، فكلّ ما يكمن في الوجود سينتهي إلى لغة، أو ضمن تشكّلات اللغة بمعناها التعبيري والتواصلي على حدّ سواء، بما في ذلك الرواية والقصّة والشعر والمسرح والسينما والرسم، ولكلّ ضحية حكاية ترغب في أن تقولها، ولكلّ ألم معنى، ولكلِّ تشوُّهٍ خطاب ينقده، ويعرّيه، ولهذا فإنّ العجز الذي ينتابنا يبدو مبرَّراً، ولكن التفاؤل حاضر، فالمواجهة أو الإبادة تستهدف نفي المعنى عن الذات، وإسكات الحقّ، ونفي الوجود، ولا بد من الكتابة ليبقى الصوت الذي يُزعج الآخرين.
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أم مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- نتيجة الأحداث الأخيرة، أدركتُ أنّ العمل الإنساني يبدو أقرب إلى مفهومي، لكوني لا أملك البعد السياسي، ولا أملك تلك المهارات التي تجعلني قادراً على التغيير... في حين أنّ العمل الإنساني يتّصل بتخفيف المعاناة، وأستذكر في هذا السياق كتاباً تناول حياة المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد، وردت إشارة فيه إلى شيء من هذا القبيل، وإلى رغبته ببذل المزيد من هذا الفعل لو عاد به الزمن؛ حيث أدرك أنّ معنى الإنسان يكمن في تقديم العون والمساعدة للآخرين. وفي هذه اللحظة الصعبة من تاريخ وجودنا، علينا أن نمارس إنسانيتنا لأنّنا في اختبار حقيقي.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- لا شيء سوى أن يتوقّف الموت، وأن تستعيد الشعوب حرّيتها وكرامتها، وألّا يتخلّى العالم عن إنسانيته التي أظهرت الحرب الأخيرة بأنّها هشّة جدّاً، ومختطَفة من قبل النخب السلطوية التي تقدّم مصلحتها على مصلحة المعنى الإنساني، ممّا يعني أنّنا بحاجة إلى إعادة تقييم للكثير من مفاهيمنا وقيمنا. لا يمكن أن يستمرّ العالم بهذه الصورة، وإلّا فلا معنى للرحلة الطويلة التي قطعتها البشرية من القيم البدائية نحو نموذج حضاري، غير أنّ ممارسة الكيان الصهيوني، ودعم بعض قطاعات العالم له عربياً ودولياً لا تعني سوى أنّنا ما زلنا في قاع سلّم الكائنات. وهنا أستذكر كتاب المرحوم ممدوح عدوان حين كتب عن "حيونة الإنسان" بوصفه الكائن الوحيد الذي يقتل لأجل القتل، إذ تسكنه هواجس الطمع والاستحواذ، في حين أنّ سلوك الحيوان مسكون بتحصيل طعامه، وحاجته فقط.
لا أملك كلمة أقولها للناس في غزّة، لنستمع إليهم فقط
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- يمكن القول إدوارد سعيد الذي لم يمارس العمل الإبداعي صراحةً سوى ربما في كتابه "خارج المكان"، ولكنه كان مبدعاً في تشكيل الوعي- على المستوى الشخصي- في حين أنّ أثره على المستوى الثقافي حمل الدور الأكبر في نقد الهيمنة، ولهذا فإنّه من وجهة نظري أهمّ شخصية عربية وعالمية تمكّنت من تكريس نموذج فكري وخطابي لنقد الممارسة الاستعمارية، وتمظهراته الخطابية.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- يبدو السؤال صادماً ومدهشاً، وربما أرى أنّني أستنكره، فأنا لا أملك كلمة أقولها لهم، علينا أن نستمع إليهم فقط...
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- أحيل الإجابة على سؤال آخر: أين الإنسان العربي؟ فالوقائع الأخيرة تكشف مدى هشاشتنا، على الرغم من كلّ ما يجري من محاولات للنضال، والاحتجاج، والمساندة، فإنّ الحدث يتجاوز هذا المعنى. ثمّة حاجة لشيء أكبر من ذلك.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- أشعر بالخجل من دارين، وأطفال فلسطين... فالخذلان لا يمكن أن يُغتفر. أقول لهم: أنتم حاضرون بقلوبنا دائماً، لن نتمكّن من تعويض فقدانكم لأحبّتكم، وعائلاتكم، ولكنّي مؤمن بأنّه بمحبتكم لبعضكم، مع مساندة الكثيرين ممّن يفكرون بكم، ستتمكّنون من تجاوز هذه المحنة، واستعادة طفولتكم.
بطاقة
ناقد وأكاديمي وشاعر أردني فلسطيني، من مواليد 1974. من مؤلّفاته النقدية: "الرسيس والمخاتلة خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المعاصر" (2013)، و"في الممرّ الأخير: سردية الشتات الفلسطيني" (2017)، و"الأنوات المشوّهة" (2019)، و"خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربية" (2021)، و"كتاب الضحية" (2024). وله في الشعر "عدت يا سادتي بعد موت قصير" (2007)، "أما أنا فلستـ(من)-طين" (2019).