تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وتبيّن كيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "عدوان كهذا لا يناسبه غير فعل مكافئ وبالاتجاه المقابل: مقاومة آلة القتل ودعم فعل المقاومين وصمود الناس"، يقول المترجم العراقي في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- هو الألم أمام العجز. الغضب أمام الظلم. الحقد على النفاق. الاحتقار لكلّ من يحرّف الحقيقة ويقلب الحقائق. والاشمئزاز من ازدواجيّة المعايير. والسخرية ممّن سارعوا ومنحوا المعتدي كلّ دعمهم ثمّ راحوا يدعونه إلى ضبط النفس و"التقليل من حجم الخسائر بين المدنيين". في كلّ يوم أزدادُ يقينا بأنّنا نعيش في غابة يتحكّم بمقدّراتها رجالٌ يتشدقون بمبادئ حقوق الإنسان والديموقراطية والحريّة وهم في حقيقتهم استعماريون وتجّار حروب.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- منذُ أن بدأ العدوان وكلّنا يشعر بستارة سوداء معتمة تؤطّر يومه وحياته. قلقٌ وحزن وعدم ارتياح. يزيد من حدّته هذا التكالب وهذا الانسياق الأعمى والتحالف بين قوى الشرّ والظلم. أناسٌ يُهجّرون ويموتون وأطفالٌ يجوّعون ويقتلون. أخبار ما يحصل لأهلنا وأطفالنا في غزّة لا تغيب عن أسماعنا وأنظارنا وتؤثّر على كلّ نشاطٍ سواء أكان حياتياً أم إبداعيّاً.
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- عدوان كهذا لا يناسبه غير فعل مكافئ وبالاتجاه المقابل: مقاومة آلة القتل ودعم فعل المقاومين وصمود الناس. أتكلّم عن مقاومة فعليّة ودعم فعّال. مع ذلك، لا يجد معظمنا الوسيلة الناجعة والمناسبة لبلوغ هذا الهدف، فيلجأ إلى أضعف الإيمان فيكتب وينظم وربّما يتظاهر. الحالة التي وصلنا إليها، على مستوى العالم حتّى، لا توفّر الكثير من هامش المناورة. وأمامكم ما يقع في أعلى المحافل وعلى أرفع المستويات. الجميع يدين ويدعو إلى وقف القتل فتعترض دولة واحدة وتُبطل كلّ قرار. ويرفع الأمين العام للأمم المتحدة صوته فيُتهم ويُهاجم ويطعن في حياديّته. فكيف لقصيدة أو لأغنية أن تغيّر مجرى الأحداث؟ قد يكون مجال الإبداع الوحيد الفعّال الممكن هو مجال الحرب الدعائيّة والصحافة وكشف الحقائق وتعرية جرائم الأعداء.
■ لو قيّض لكِ البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- لا تعارض بين كلّ ما ذُكِر. فالإبداع لا يقتصر على الرسّام أو على الشاعر أو على القاص. الإبداع والتوجّه الإنسانيّ هما نزعتان طبيعيتان يمكن أن تظهر إحداهما أو كلتاهما في أيّ كائن بشري، بغض النظر عن مهنته أو ميوله الأخرى. وقد تجتمع السياسة والنضال والإبداع في شخص واحد إذا كان دافعها إنسانيّاً نقيّاً.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- باتت في العالم ثوابت يصعب تغييرها، أو إنّ تغييرها، ولو جزئياً، يستدعي الكثير من الوقت والتضحيات. وأمامنا ما يحدث من ظلم متستر بأكاذيب وادعاءات، ومدعوم بأقلام وجيوش إلكترونية وغير إلكترونيّة. لقد استحكم الظلم حتّى بات الخروج من دوائره وقلب "حقائقه" مُكلّفا وصعباً.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- كلّ من أسّس لروح المقاومة وبشّر بحالة الرفض التي ما زالت قائمة في نفوسنا. من الطوقانين إلى غسان كنفاني إلى توفيق زيّاد ومحمود درويش وسميح القاسم. لقد كبرنا على أشعارهم وأفكارهم وبنينا عليها المواقف والمشاعر. أقول لهم: لقد أثمرَ زرعكم حتّى ما زال أطفالنا، حتّى أطفالنا، وبعد كلّ هذه السنين، وبعد كلّ هذه المعاناة، يهتفون لفلسطين ويحلمون بالحرية والانعتاق ويقفون في وجه الغاصب ويتحدّونه.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- لقد قهرتم الموت واليأسَ. أتعبتم عدوّكم وكشفتم محيطكم وفضحتم كلّ النفاق الذي في العالم. اعذرونا أن لم نستطع فعل الكثير. اعذرونا أنّا بكينا وجزعنا وشتمنا بينما واجهتم أنتم موت أعزائكم وخراب بيوتكم، وصبرتم على الجوع والعطش، بلا بكاء ولا جزع ولا يأس. اعذرونا أنّكم مبصرون أكثر منّا. ومؤمنون أكثر منّا. وصابرون أكثر منّا.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- لقد أتعبوكَ حتى ما عدتَ تمتلك غير الدعاء. وحاصروك حتّى ما عدتَ تلتفت إلّا إلى لقمة عيشك. حسبكَ القليل القليل الذي تشعر به. وحسبك أن تحتسب وتنتظر المعجزة.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- هنيئاً لكِ دارين صبركم على الشدّة وقوّتكم ساعة تنهار الرجال وتتصدّع الجبال. لقد أثبتّم يا أطفال غزّة ويا نساءها وشيوخها، أنّكم أقوى من عدوكم المدجّج بسلاح الموت والغدر والكراهية. انتصرتم عليه ببراءتكم وهزمتموه بضعفكم. ستزول الغمّة وسيهزم الجمع ويولون الدبر وستعودون إلى دياركم وبيوتكم ومدارسكم كِراما أعزّة بعد أن سطرتم ملحمة سيذكرها العالم وسيذكرها التاريخ.
بطاقة
أكاديمي ومترجِم عراقي من مواليد عام 1952 مقيم في الجزائر. حاصل على دكتوراه في اللغة الإسبانية من "جامعة غرناطة" عام 1988. صدر له أكثر من عشرين عملاً مترجماً في الأدب والتاريخ، منها: روايات "أزهار غرناطة" (2016) للكاتب الإسباني خورخي فيلا سيفيل، و"الرجل الذي كان يحبّ الكلاب" (2018) للكاتب الكوبى ليوناردو بادورا، و"ثلاثة نمور حزينة" للكاتب الكوبي قيرمو كابريرا إنفانتي (2020) و"أنا الأعلى" (2023) للكاتب الباراغواياني أوغوستو روا باستوس. من مؤلفاته في الترجمة: "تدوير الزوايا: مسائل في الترجمة" (2021). حاز "جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي" عن فئة "الإنجاز" (2023).