تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر في إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "مهما استمرّت الإبادة، فلا بدّ للعدالة الإنسانية أن تجد طريقها"، يقول الباحث الجزائري لـ"العربي الجديد"
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
يشغلني، كما يشغل كلّ إنسان حرّ، ما يجري في غزّة من إبادة، وتحيّرني أكثر هذه الهوّة الصارخة بين المبادئ والمُمارسات، وبين القِيم الأخلاقيّة والتصرّفات، وسطوة المصالح، وغياب التضامن الفاعل القادر على كَسْر دائرة الموت التي تعيشها غزّة منذ خمسة أشهر. كذلك يشغلني كثيراً سؤال المآل الذي يفرض نفسه ليس فقط على مستوى القضيّة الفلسطينية، ومستوى حرب الإبادة التي تجري في غزّة، بل على مستوى العالَم، لأنَّ قانون الغاب والقوّة الغاشمة أصبح مكشوفاً، ولا عزاء للقِيم الإنسانيّة، والقانون الإنساني، ولكلّ ما يعدّ في الفلسفة مقوّماً للإنسان بما هو كذلك.
■ كيف أثّر العدوان في حياتك اليومية والإبداعية؟
لا يُمكن لهذه الإبادة المنظّمة التي تجري في غزّة ألّا تؤثّر في حياتي اليوميّة والعِلميّة والإبداعيّة، ليس فقط لأنّني مُلتزِم سياسيّاً وأخلاقيّاً، ولكن لأن ما نُشاهده، ونقرأه، ونسمعه يوميّاً، يُلازمنا ولا يُفارقنا. ونظراً لهوله، فإنَّه لا يُمكن أن يُبقينا مُحايدين، أو غير معنيّين به، أو لا نشعر به. فلا يتعلّق الأمر بـ"الحرب"، كما يُصطلح عليها، بل بإبادة مُتقنة، تعمل على القضاء على كلّ أسباب الحياة في قطاع غزّة، الذي حوّلته الآلة العسكرية الإسرائيلية إلى مكان غير صالح للحياة: المياه ملوّثة بفعل هدم البنية التحتيّة، والهواء ملوّث بفعل الكمّ الهائل من القنابل التي أُلقيت ولا تزال تُلقى على مساحة أرضيّة محدودة، والمنع المُبرمج على إدخال الغذاء والدّواء، والقتل اليومي. وإذا كان هنالك من يُجادل في مفهوم الإبادة، وشروطها، فإنَّ ما نراه ونتابعه يوميّاً يشهد على أنّ ثمّة ما يُمكن أن أسمّيه تطبيق سياسة إماتة ممنهجة تحقّق فعل الإبادة، من دون التصريح به، أو الاعتراف به. وفي ظلّ هذه الحالة، فإنني أقضي وقتي في متابعة الأخبار، وقراءة التحليلات، وتسجيل بعض الأفكار، والمشاركة في بعض الفعاليّات المحدودة، وتأجيل بقية الأعمال والأبحاث.
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
نحن في حاجة ماسّة إلى كلّ الأعمال العِلمية والثقافية والإبداعية التي تُعزّز صمود الفلسطينيّين. والمتابع للخطابات الرّسمية لكثير من الدُّول الغربية المساندة لـ"إسرائيل"، يُدرك أنّ ثمّة حاجة للمتابعة النقدية والإسهام الثقافي، والفنّي، والفكري الذي يهتمّ بمفاهيم الحرب، والسلام، والعدل، والحرّية، والحقّ، ونقد كلّ أشكال العنصرية، ويبرز عدالة القضية الفلسطينية، ويعبر عن حجم المعاناة التي يعانيها الفلسطينيّون، وبخاصة في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، ويكشف عن مدى الظلم الذي لحق بالفلسطيني منذ ما يزيد على سبعين عاماً، ويدحض منطق الغلبة، وخطاب الهيمنة الغربية الذي يعمل على قلب الحقائق، وتشويه المعطيات، وتشتيت الانتباه.
ثمّة حاجة لكلّ إسهام ثقافي ينتصر للعدل والحرّية والحقّ
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
سأختار الفلسفة دائماً، لأنَّها في تقديري مجال ثقافي وفكري يسمح لي بتحقيق ما أصبو إليه.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
كما تعلم، فإنَّ العالَم يتغيّر شئنا أو أبينا، وبالتالي فإنَّ المسألة تتعلّق بالعالَم الذي نسهم في بنائه، وإنّني أعمل بقدر طاقتي، وفي حدود إمكاناتي، على أن يكون عالَماً يحترم الإنسانية وحقوقها وواجباتها الأساسية، وبخاصة ما تعلّق بالعدل، والحرّية، والمساواة، والحدّ من كلّ أنواع القهر والظلم والعُدوان والتسلّط. وفي تقديري، فإنّه مهما عظمت المأساة، والجريمة، والإبادة، فإنَّ العدالة الإنسانية ستجد طريقها، وستحقّق المقاومة أهدافها في الاستقلال والحرّية والكرامة.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
ثمّة شخصيات كثيرة في الماضي والحاضر تنير دروبنا بأفكارها وأفعالها، ويحضرني في الوقت الحالي المفكّر والمناضل فرانز فانون الذي شخّص الاستعمار، وكشف عن كثير من مفارقات الفكر الغربي، وعلى رأسها ظاهرة العنصرية، ويعدّ اليوم مصدراً من مصادر الفكر التنويري، وكتابه "معذبو الأرض"، خير شاهد على ذلك.
قانون الغاب الصهيوني أصبح مكشوفاً ولا عزاء للإنسانيّة
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
لا أظنّ أنَّ أهلنا في غزة بحاجة إلى كلمات فقط، بعدما بلغوا حدّ المجاعة، والموت من أجل كيس من الدقيق، والنوم في العراء، إنَّهم في حاجة إلى مساندة فعليّة وحقيقية، ترفع عنهم كلّ هذا الظلم والعدوان. وإذا كان من كلمة يجب قولها، فإنَّها كلمة التضامن: لنتضامن مع غزّة وأهل غزّة بقدر استطاعتنا.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
في تقديري، يجب على المواطن العربي أن يدرك أن مستقبله ومصيره مرتبطان بتحرير فلسطين، وأنه مهما أعلى الخطاب الرسمي للدولة الوطنية من محاسن الاستقلال والتنمية، فإن هذا الاستقلال في ظلّ الهيمنة الغربية، ومساندته المطلقة لـ"إسرائيل"، سيبقى محدوداً، ولن يكتمل إلّا بإقرار حقّ الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته، وهو ما نصّت عليه القوانين الدولية، وأن يعمل على نصرة هذا الحقّ، والدفاع عنه.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت: "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي". ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
تابعتُ مأساة هذه الطفلة وأفراد أسرتها، وهي واحدة من مآسٍ كثيرة حدثت وتحدث في غزّة، ويصعب حقّاً مواساتها من بعيد، ولكن إذا كان هذا طلبها، فإنَّني أقول لك يا عزيزتي دارين: أنا معك، وأشدّ على يديك، وأقول لك تشجّعي، فإنَّها شدّة وتزول، وما ضاع حقّ وراءه مطالب.
بطاقة
باحث وأكاديمي جزائري يدرّس الفلسفة في "جامعة الكويت". من مؤلّفاته: "الهوية والتاريخ: دراسات فلسفية في الثقافة الجزائرية والعربية" (2015)، و"اللغة والسلطة: أبحاث نقدية في تدبير الاختلاف وتحقيق الإنصاف" (2017)، و"السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية" (2022)، و"الإسلام والحكم" (2019). من ترجماته: "العقلانية الجديدة" (2023)، لبرتران سان - سيرنين، و"فلسفات التعدّدية الثقافية" (2024)، لـ بول ماي.