- تثير القصة تساؤلات حول طبيعة التعاطف الإنساني وقدرة الأدب على تأبيد المأساة وخلق تعاطف دائم، مقارنةً بالتعاطف مع ضحايا الكوارث الحقيقية.
- يتم التأمل في دور الأدب بإيقاظ مشاعر التعاطف والرحمة تجاه معاناة الآخرين، مشيرًا إلى أهمية القصص في تشكيل وعينا الإنساني وموقفنا من الظلم.
منذ أن كتب الروائي الروسي نيقولاي غوغول قصة "المعطف" تجاوزَ أثرها الأدبَ الروسي، كما يعترف بذلك كبار الكتّاب الرّوس في القرن التاسع عشر، والحدودَ الجغرافية لروسيا، كي يصل إلى قلب الإنسانية. لا يتوقف الناس الذين عرفوا القصة عن إعلان التعاطف مع شخصية أكاكي أكاكيفتش؛ وهو موظّف صغير عمل جاهداً كي يشتري معطفا يقيه برد الشتاء، بعد أن اهترأ معطفه القديم، وامتلأ بالرقع، والمزق، والثقوب، لكنّه سُرق منه في الليلة الأولى التي ارتداه فيها، ولم يعبأ الّلصان اللذان انتزعاه منه بأي كلمة من كلمات التوسّل والضراعة التي وجهها إليهما كي لا يأخذا معطفه. كما لم يعبأ الضابط الذي راح يشتكي إليه به، وطُرد من المكتب بلا رحمة.
ما السر؟ ولماذا يبدو شخصٌ مسكينٌ ومغمورٌ، لا يعبأ به مجتمعه، بطلاً إنسانيّاً كبيراً في نظر البشر؟ علماً أنَّ أكاكي أكاكيفتش، واسمه مكتوبٌ خصيصا من قبل غوغول كي يُلفظ كاملاً هكذا دون اختصار، لم يحلم في أي يومٍ من أيام حياته، على فرض أنّه كان مخلوقاً من لحم ودم، بأكثر من الحصول على معطفٍ من القماش، لا على تعاطفٍ من المشاعر والأحاسيس. والغريب أن يكون قد حُرم، في حياته، من كليهما. فلا زملاؤه في العمل أبدوا رحمةً، ولا رجل البوليس الذي اشتكى إليه ما تعرّض له أبدى اهتماماً.
لكن الأقدار الأدبية، والفكرية، والأخلاقية التالية على تعرّضه للسطو، وموته بعد ذلك، منحته تعاطفاً أبديّاً، لا يستطيع أي لصٍّ عديم الأخلاق أن يسطو عليه. سوف تتابع القصة القصيرة في روسيا، وفي العالم أجمع الكتابة عن محنة الإنسان الصغير الفرد في مواجهة القوى عديمة الرحمة التي تتجاهله، أو تستغله، أو تشغله لحسابها.
هل يحتاج البشر في كل عصر إلى معطف ضائع كي يعثروا على تعاطفهم؟
اللافت أنَّ البشرية تعرّضت، بعد موت أكاكي أكاكيفتش، لمحن وكوارث لا تعد. فالقرن العشرون مثلاً، شهد حربين عالميّتين قُتل فيهما الملايين من البشر بلا رحمة. وثمة المئات من الحروب الثانوية الكبيرة والصغيرة التي مات فيها الملايين أيضاً، ومع ذلك لا يحفظ البشر أي اسمٍ من تلك الأسماء، ولم تعلن البشرية تعاطفاً عميقاً مع أي فرد من بينهم.
الغريب، إذاً، أن يكتسب شخصٌ ورقيٌّ غامضٌ هذا التعاطف الشامل، بينما يدير ملايين العرب اليوم ضمائرهم ومشاعرهم بعيداً عن مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيّين في غزّة؟ لماذا تجاهل معظم البشر مآسي الناس في الأرض وتعلّقوا بمأساة الملك لير، أو هاملت، أو أكاكي أكاكيفتش؟
هل التعاطف صناعة، أو تدبير، أو خصلة متجذّرة في العقل والأحاسيس البشرية؟ هل هي الكتابة، أي هل بإمكان الكتابة الجيّدة أن تؤبّد المأساة وتخلق أبدية الرحمة؟ هل يعود الفضل للكتابة وطريقتها؟ وهل يحتاج الفلسطينيّون لقصة عن معطفٍ، أو رواية عن كوخٍ، على غرار كوخِ العم توم، عن أحد أعمامنا في غزّة، من أولئك الذين تشنُّ عليهم "إسرائيل" حرب الإبادة، وتشاركها أميركا حرب انتقام جديدة من العم الذي فضحَ عنصريّتها من قبل، وتجسّد أمامها من جديد في صورة الفلسطيني؟ هل يحتاج البشر في كلِّ عصرٍ إلى معطفٍ ضائع كي يعثروا على تعاطفهم؟
* روائي من سورية