معذّبو الأرض

24 فبراير 2021
مقطع من لوحة من سلسلة "منفى" لـ غيرّيرو ميدينا
+ الخط -

لسنا ضعفاء، إلّا بالقدر المخصّص للكائن البشري، الذي يعي ما حوله، وما أبعد منه: المصير. ويتعذّب بهذا الوعي الشقي. من هذا المنطلق، فالمعذرة لو قلنا أو نبحنا (سيّان) بحقيقةٍ لا يودّ كثرٌ من اللاجئين (ومن بينهم مثقفون وكّتاب) قولها، خوفاً من الاعتراف بـ"الحال المايل". وهي ذي: المنفى لا يتلاشى، حتّى في القبر (لهذا السبب نحن هنا). نتسمّع، بآذان ميكي ماوس، كلّ همسة، ونرى، بعيون ربّ عمودي، كلّ إيماضة، ونحيا ونموت على قلق، كأنّ العواصف المؤجّلة، تنتظر مداهمتنا، حتى في لحظة الأورغازم تلك.

ليس المنفى بديلاً عن الوطن، ولا بالعكس. فالحقّ أنّ وعيك هو الذي ينفيك، ولا دخْل للجغرافيا في أيّ مزاعم وادّعاءات حول ذلك. الوطن منفى. بلاد اللجوء منفى، لسبب هيّن ومركّب: كل الكوكب منافٍ. حتى شجرة التنّوب التي تطلّ علي من طرف الغابة الآن، وأراها عبر واجهة المطبخ الزجاجية الكبيرة، هي أيضاً تحيا في منفى، لكنّها لا تعيه، لأنّ الطبيعة وهبتها وعياً غير وعينا البشري المحكوم بمعرفة المصير. ولولا ذلك، لما بدت التنوبة سعيدة، على ما أظن.

◼◼◼

ينتظر اللاجئ سنوات كي يحصل على ورق رسميّ، تعترف من خلاله الدولة، به. غير ذلك، لا يعني إلّا عدم الاعتراف. وإلّا المصير الأسود، للاجئٍ ولعائلته لو كان متزوجاً ويريد لمّ شملها. ورغم شيوع الرفوضات بكثرة بين لاجئي مخيّمنا البالغ عددهم 600 ونيفاً، إلّا أنّ من حقّ مَن تلقّى قبولاً أن يفرح، ولو في حدود الاحتشام، مراعاةً لنفسيات زملائه وجيرانه المجروحين من حوله.

أتذكّر حصول جارٍ لنا على الورق، وكان حدثاً نادراً بالفعل، انتظره الرجل ثلاث سنوات كاملة، بعد رحلة تهريب ملحميّة أو تكاد، ففرح بشكل هستيريّ، وصار يرقص ويتناوب على الدخول في حالة من البكاء والضحك وعدم التصديق، في مزيج انفعالي ظاهر وقاهر. ثمّ لمّا هدأ، ذهب وعاد بأرطالٍ من الحلويات، يوزّعها على جميع الغرف، ويبكي أثناء التوزيع، متمنّياً للجميع أن يحصلوا على الإقامة "خمس سنوات"، مثله.
ويومها شعرتُ بعدم الارتياح نحوه، ظانّاً أنّ الفرحة يجب أن تكون بسَمْتٍ خافت، ومحتشمة في القلب، نظراً لكثرة الجراح والمجروحين، وكثرة حصول الرفاق والرفيقات على الرفض الأوّل، وهم ينتظرون الآن قرار الاستئناف، على غير وجيهِ أمل.

بمعنى أنّ مصيرك كلّه كلاجئ معلّق على: نعم أو لا

لكنّني، بعد خروج اللاجئ المحظوظ ذاك، أصابني تبكيت الضمير، على مجرّد شعوري المذكور (لم أُفصح له عنه). أمّا الآن، الآن ودائماً في ما بعد،  فأجد وسأجد في فرحة أيّ لاجئ يتلقّى اعتراف البلد به، أكثر من مجرد وصفها بـ"البريئة". وأنه في فرحته البريئة، تلك، كان معذوراً. فما هي "الفرحة البريئة"، إن لم تكن هي هذي، بتمامها وكمالها؟

لقد تبيّن للمرء، بعد خوض التجربة، أنّ قرار القبول أهمّ من مصاري العالم، ومن أعلى شهادة جامعية، ومن قرار الزواج... إلخ. فهو مَن يأتي بكلّ ما سبق وما سيلحق. وبدونه أنت لا شيء، ولن يسعى أحدٌ للاعتراف بك، ولن تكون حتى مرئيّاً. بمعنى؟ بمعنى أنّ مصيرك كلّه معلّق على: نعم أو لا. ولا أذاق الله أحداً مرارة وفجيعة ذينك الحرفين الأخيرين الرهيبين!

◼◼◼

طوال رحلتهم من تركيا إلى بلجيكا، كان اللاجئون معذبّي الأرض بالفعل: هذه الأرض الشاسعة، التي هي ليست ملكا لجميع ساكنيها. وهكذا، كلّ يوم، كانوا على الطرق، في حالة سيئة، وغالباً ما ينامون في أماكن تفتقر إلى الراحة وقليل من النظافة.

ولمّا جمعنا بهم المخيم، استمعتُ إلى مئاتِ قصصهم، ولاحظت أنّهم، على فسحة من الوقت والأسى، يروون ولا يرتوون. يروون عن الرحلة وأنا أنصت عن كثب. رحلة عبر الزمن، رحلة عبر البشر الآخرين، رحلة عن الجغرافيا. رحلة ونصوص تؤطّرها، فيتّضح فيها كيف أنّ الواقع جعلهم يغيّرون الخطط الأوّلية، ويزيلون بعض الآمال، ويضيفون أخرى أكثر تواضعاً إلى مجموع الكلّ المشتهى.

أستمع، ومع كل هذه المواد، أفكر: والله نحتاج لا إلى كاتب (فأيّ كتابة تلك التي تزعم شرف التنقيب عن واقع أشبه بمتاهة لغز؟)، بل إلى قامة مهندس أو مهندسة معماريّة، تقوم كي تبني لنا صورةً مصغّرة عن متشرّدي برج بابل، وقد تقطّعت بهم مبادئ الخلْق الأولى، واربدّت السبل.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون