تختص زاوية "صدر قديماً" بتقديم قراءات في كتب عربيّة مرّت عقودٌ على إصدارها، وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها. هنا إطلالةٌ على كتاب "معاوية بن أبي سفيان" لعبّاس محمود العقّاد (1889 - 1964)، والذي صدر عام 1949.
لا يخفى أنّ منطلَق استرجاع كتاب عبّاس محمود العقّاد "معاوية بن أبي سفيان"، والصادر في كانون الثاني/ يناير 1949، هو ما شاع من اعتزام قناة "أم بي سي" السعودية إنتاج مسلسل رمضاني يحمل العنوان نفسَه. ولأسباب مختلفة، لم يرَ هذا العملُ النور خلال الموسم الرمضاني الحالي، وهو ما يُتيح إجراء مقارنة بين المنظور التاريخي - الفلسفي الذي توخّاه العقّاد، وبين الاستعادة التلفزيونية التي كان من المتوقّع أن ينتهجها عملٌ ردامي تخيُّلي، من أجل فحص الفوارق المحتمَلة بين المنظورَين.
بدأ العقّاد (1889 - 1964) كتابَه بفصل تقديمي استرجع فيه "تمهيدات الحوادث"، والتي تتّصل بالسياق التاريخي الممتدّ من مرحلة ما قبل الإسلام إلى غاية القرن الأوّل للهجرة، والذي وطّأ لصعود بني أميّة، وعلى رأسهم معاوية؛ فقد كان هذا السياق مهيّأً لظهور رجُل في مثل "قُدرته" ودهائه.
أخرج العقّاد سيرة معاوية من سلسلة "عبقريّات الإسلام"
وجرياً على عادته في تحليل أغوار النفس البشرية، واعتبار الشخصية جماع مكوّناتها الباطنة والظاهرة، خصّص صاحبُ "العبقريّات" الفصول التالية لتحليل أهم السمات التي ميّزت شخصيّة هذا الصحابي؛ مثل الحِلم وعُلوّ الهمّة والطموح والدهاء والكرم، وذلك قبل الكلام عن آثاره في الحقل السياسي، ليختم التأليف بتقييم شامل لأعمال هذا "الملِك" الذي تمكّن من وسائل الحُكم والمنعة، فشيّد بها أول "دولة" بالمعنى الحديث، في تاريخ الإسلام، إثر انقضاء طور "الخلافة الراشدة" التي عُدّت استثناءً في مسار الإنسانيّة، كما دلّل على ذلك ابن خلدون (1332 - 1406م).
وبفضل هذا التصوُّر، أخرج العقّاد سيرة معاوية من سلسلة "عبقريّات الإسلام" التي خصّص أولاها للنبيّ وللخلفاء، مكتفياً بجعله أحدَ "المُقتَدرين" في بدايات تشييد الدولة الإسلاميّة التي امتدّت في عهده حتى أطراف آسيا وأوروبا. فبعد تحليل عواقب "الفتنة الكبرى" التي هزّت الأمّة وتمحيص شهادات مُعاصريه، رفعه العقّاد إلى مستوى النبوغ السياسي، لأنّه لم يترك وسيلةً إلّا وتذرّع بها من أجل الاستفادة الذاتيّة، وإفادة من دونَه من الأتباع والموالين في ظلّ منظومة حُكم متكاملة، لكنّه اعتبرها إفادة على المدى القصير، نخرت عواقبُها البعيدة أسس هذه المنظومة في أمد وجيز.
على مستوى المنهج، تجوّل العقّاد في كتب التاريخ الإسلاميّة، مُحقّقاً مئات المعلومات والموارد والشهادات، لا من أجل استدعاء الأحداث ضمن خطّية زمنيّة بغاية التمييز بين صادقها وزائفها، ولكنْ من أجل انتقاء ما يصلح منها لتمحيص هذه السيرة، ووزْنها بميزان القيم الإنسانيّة في حقول السياسة والأخلاق والدين.
بنى مُلكاً دُنيوياً قطع مع مثالية الخلافة الراشدة
وهو ما حدا بالعقّاد إلى التعامل بحذر مع أغلب الأخبار المتعلّقة بهذه الشخصيّة، لا سيّما أنّ صورتها رُسمت في حمأة الصراع الأيديولوجي بين طوائف الإسلام، وإشاعات المغرضين التي لا تزال نارها متأجّجة إلى اليوم. وأهمّ ما اعتمده من كتب التراث: "تاريخ الرُّسل والملوك" للطبري، و"الكامل" لابن الأثير، و"تاريخ الخلفاء" للسيوطي، لأنّه اعتبر شهادات مؤرّخي الإسلام أقربَ إلى فهم الحقائق، واستيعاب خصائص الأبنية العشائريّة التي حَكمت تحالفات ذلك الطور. وأشار إلى أنّه تعامل مع مُؤرّخي عَصره بتحفّظ؛ نظراً إلى تحامُلهم ووقوعهم في شرَك الإشاعات التاريخيّة، ولذلك أحجم عن نقْل تحليلاتهم.
وهكذا، لم يورد أقوالَ المؤرّخين على علاّتها، كشهادات صادقة أو زائفة، بل كـ"دلائل" يَستشفُ منها ما به يسبر أغوارَ هذا الحاكم ويبيّن مظاهر "القُدرة" لديه. وفي خلاصة الكتاب، انتهى إلى أنّها "قدرةٌ" تقصر عن "العظمة"، أوصلته إلى "شوط قريب"، دونه تحقيق المطامح البعيدة. كما حلَّل من خلالها المظاهر التي أتاحت له بناء "مُلك" دنيوي قطع مع مثاليّة "الخلافة الراشدة" بعد أن توسّعت رقعة الإسلام وذهبت بساطة النبوءة.
وبما أنّ المسلسل لم يُعرَض، نكتفي بالتساؤل إن كان بوُسعه أن يسبر أغوار هذه الشخصيّة، وأن يغوص في متاهات التاريخ التي تراكمت في طيّاتها الأهواء والمبالغات والمحاباة، حتّى لدى أكثر المؤرّخين عقلانيّة، كابن خلدون. فقُصارى ما سيحقّقه هو "تبئير سينمائي"، غير قادر على استرجاع تعقّد التوازنات القبليّة، فضلاً عن عناصر العقيدة والغنيمة، وهي ثلاثية عابد الجابري في كتاب "العقل السياسي" (1991)، التي حكمت تلك الأحداث المفصلية وغيّرت وجه الحضارة العربية الإسلامية، مثل حُكم بني أميّة في الشام قبل ظهور الإسلام؛ وكذلك علاقة هذا البطن القُرشي ببني هاشم وتعامُله مع البيزنطيّين والغَساسنة، ثم استفادته من الإرث الإداريّ لدولة الفُرس. فضلاً عن التفنّن في عقد التحالفات وفي نقضها، وعن تأثير الثقافات المجاورة الذي سماه فون غرونبوم "تثاقُف" الحضارات، وغيرها من العوامل التي يعسر على مشهد تلفزيوني، مهما بلغت جودته، من تسليط الأضواء على نتوءاتها وتجاويفها.
ولذلك، يظلّ كتاب "معاوية بن أبي سفيان" جديراً بالاسترجاع وسط السجالات التي تشيع اليوم، حول الشخصيات الإشكالية في الإسلام. فهو يضع القارئ حيال منهجيّة صارمة تُعين على النظر في مفاصل الماضي وتفكيك أطواره واستعراض خفاياه، قبل المرور إلى تقييم الموضوع وفق موازين العقل والأخلاق والإنسانيّة، بعيداً عن ضوضاء الجدل وتقنيات الإخراج التي قد تحجب الحقائق، ولا تعرض منها إلّا ما يُوافق الأهواء ويَخدم المصالح العارضة.
ولعلّ أكبر فوائد هذا السِّفْر التخلّي عن صراعات الماضي وتأجيجها بمناسبة وبغير مناسبة، لأنّ كلّ استعادة غير عِلمية ستعجز لا محالةَ عن استغراق التحليلات التي أجراها عقل العقّاد النافذ، فقد محّص كلّ صغيرة وكبيرة تتّصل بسيرة معاوية، مدمجاً إيّاها ضمن منظور تاريخي واعٍ بثخانة الماضي. وحدَه هذا المنظور كفيلٌ بإسكات صخب هذه الجدالات العقيمة والتنبيه على تواضُع وسائلنا العقليّة، فضلاً عن "التبئير السينمائي" الذي هو بالضرورة ضيّقٌ ومُوَجَّه.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس