مصابٌ بتدوينِ ما قاله لكم الأحبّة

11 مارس 2024
طفلتان أمام "مسجد الشهداء" المدمَّر في مخيم جباليا، 5 آذار/ مارس، 2024 (Getty)
+ الخط -

لو تكن


أنزلونا إليكَ من حديقةٍ مُستباحةٍ
وخلفنا ظلَّت المناجلُ والرؤوس المعصوبة والجرّافات
خلفنا هَرجةٌ ليس لنا فيها ناقةٌ تعبر الحال إلى أحسن منه
ولا حوتٌ يغورُ بنا بعيدًا عن هذا العبث.

لسنا سوى هذهِ الجِرار المُكسَّرة وليسَ فيها ذَهبٌ
وهذا القمح الهباء وليس من يجمعه
لسنا أكثر من حصى طفرت إلى البئر
وظلّت هناك تكتم حسرتها
لهذا، 
لا أظنُّكَ مضيافًا بما يكفي،
فلو تكن رؤوفًا بنا قليلًا
يا جحيم.


■■■

من أسقطها من عِليِّين


لمن تُتركُ هذهِ الجنّة المكسور دورقها
والمُبدَّد ماؤها في شقوقِ الأرض الغريبة.
هذه الجنَّةُ الجارحةُ للماشي بعيدًا عن شظاياها
والصاعد في بحَّةِ صوتها ذبولُ الصبّارِ في ظهيرةِ البادية.

لمن تُترَكُ هذهِ التي صحونا
وكلُّ شذرةٍ منها في إصبعِ شيخٍ، وسيّدٍ، 
ولصٍّ مقدَّسٍ في شرائع اللّصوص،
وأيُّ يدٍ، تَخرجُ بيضاء من تحت إبطِ صاحبها،
ستجمَعُها من شتاتٍ، وتُعيد ماءها من خوف.

مصابٌ بتنظيف قبوركم من الحصى وتفتيت تربتها الخشنة

لستُ أدري،
هذه الجنّة التي كانت تُسقى على رفِّ الفراديس بماءِ الصالحين، 
وتُبذَرُ فيها صباحاتهم الناصعة
من أسقطها في غفلةٍ من عِليِّين
وتركها هكذا
مُستباحةً من الضبِّ والذئبِ، ووحشة الجفاف،
إلى الأبد.


■■■


هذا هوَ


هذا هوَ الموت
أعثرُ عليه في طريقي كثيرًا
وأملأ بهِ جيوبي مع التينِ والكرزِ
أمضغهُ
وأبصقه
وأمشي لأركلَ الحصى وأُصفِّرَ كأنّني ما ذقتُ طَعمه.

لا أخاف منهُ ولا أُحبُّه
لكنَّني آلفه
وبشكلٍ يومي
يتمسَّحُ بثيابي
مثلَ قطَّةٍ وحيدةٍ في ليلةٍ ماكرة.

هذا هو الموت
ظلّي الوحيد في الضوء والعتمة
ومقعدي الشاغر في باصٍ ينتظرني آخر الدرب.


■■■


أيّها الغد المرسوم بالوحول


I

كمن يتفحّص صورةً شمسيّةً داستها فصول السنة
بطينها وتُرابها، بمائها ونارها.

كمن يُحاول أن يتبيّن فيها ملامح أحدٍ يعرفهُ
لكنَّها عصيّةٌ على العين التي لا تريد أن ترى قباحة أحدٍ تحبّه.

هكذا أيُّها الغدُ المرسوم بالوحول،
في هذه البلاد المشدودة من ياقتها إلى فمِ الشمس
والممزّق جيبها من لصوص الطّين
الحافية على جمرٍ، 
والنائمةُ على العاقول يفترس لحمها ولحم طمأنينتها.
لا ملامح لك، 
ولا في تفاصيلك بعضٌ من جينات أمسنا المحفوظ في ألواح البلاد.

العواطفُ لا تنمو ولا تذبلُ والعالم سوق نخاسة طويل

أيُّها الغدُ الآتي من رأس آلهةٍ دمويةٍ
تستبيح الحديقة والحانة والمقهى الكئيب،
لا تدخل من النافذة
لا تكن عفنًا تخضرّ شُعيراته على وجودنا
لا تطرق الباب،
غريبٌ لا تشبه الغرباء الذين شرّعنا لهم خيامنا
ولا نعرفك.

II

ماذا سنفعلُ من الآن
للغدِ الذي يَلوكُه مَصيرٌ غامضٌ ويبصِقُه
وعلى أيّ بليّةٍ سنلتفتُ،
والبلايا تطلعُ غفلة مثلَ الأشباح
وتتدلّى على رؤوسِنا فجأةً مثل من يتشهّى فاكهةً في الجنّة
ثمَّ نراها في الهبوب، وفي الدرب، وفي أعين هذا الخلق الأسيرة.

أقول: ماذا سنفعلُ
ونحن أُسارى وحوشٍ لا ترتوي من دمٍ
ولا تشبعُ من صراخ الهاربين من بطشها إلى بطشها.
إلى أين سنمضي؟
والمجاعاتُ تُقلِّبُ في أحشائِنا عن ذُرى خُبزٍ قديم
والرملُ ماؤنا وشرابنا.

من سينتبه لغدٍ ترسمهُ الآلاتُ وتضع اشتراطاته يدٌ مجهولة
الإنسانُ فيه بضعة أرقامٍ تعدو في الشاشات
العواطفُ فيهِ لا تنمو ولا تذبلُ مثل وردة منسوجة على قماش، 
الصداقات هراء
والعالم سوق نخاسة طويل.

غدٌ ترسمهُ الآلاتُ الإنسانُ فيه بضعة أرقامٍ تعدو في الشاشات

أقول وأنا أتربّص في مآزق الحياة:
ماذا سنفعلُ لما بعد الغدِ
- إن داهمنا الغدُ وجاء قبل موعده -
وأنا للآن، لم أنتهِ من عِلَلِ يومي وبلاياه
ولم أزل
أكشط 
عفن الأيام الماضية
عن جسدي.


■■■


أتذكَّرُكم واحدًا واحدًا


أتذكّرُكم كما لو أنّني اخترتُ أسماءكم
وألقيتُ عليكم شهادةَ الوجودِ
ونقشتُ مواليدكم على جدران ذاكرتي.

لا أعرف النسيانَ
ولا هو يتدنّى مني
أنا مصابٌ بملامحكم التي أبصرتم بها النهايةَ،
بوجوهكم المصفرَّة وأجسادكم الرخوة ونومكم الأبديّ 
مصابٌ برسمِ مصرعكم كلّ ليلةٍ،
بتدوينِ ما قاله لكم الأحبّة،
بتنظيف قبوركم من الحصى وتفتيت تربتها الخشنة،
بإنزالكم فيها وتلاوة الخسران عليكم.

أتذكَّركم واحدًا واحدًا
وكلَّ ليلةٍ أقضي معكم سهرتي
حين أغلق جفوني
فتفتحون جفونكم فيها.


* شاعر من العراق
 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون