برنامج "مذكّرات" على "التلفزيون العربي": تحوّلات الأفكار والمجتمع في تاريخ شخصي

في حلقة برنامج "مذكّرات" التي بثها "التلفزيون العربي" في السادس والعشرين من أيار/ مايو 2022، وتناولت تفاصيل تجربة ساطع الحصري الفكرية وشهادته على عصره، يقف مفتتحها عند مقولة "لقد انفصلت سورية عنّا"، التي فاجأتْ بها صحيفة "وقت" الصادرة في إسطنبول عام 1919 قرّاءها؛ أي بعد عام من انسحاب القوّات العثمانية من بلاد الشام، إذ كانت تصف لحظة رحيل المفكر السوري العثماني (1880 - 1968) عن تركيا.

تعود الحلقة إلى مرحلة مفصليّة من تاريخ المنطقة، في العقدين الأوّلين من القرن الماضي، حيث ناشدت صحف إسطنبول الحصري أن يبقى في الأناضول لأنه "يمثّل رأس مال الدولة العثمانية الأصيل"، وتكشف سيرته بوصفه واحداً من أواخر المواطنين العثمانيين، تكثّفت خلالها التحوّلات الكبرى التي شهدتها الإمبراطورية في مراحلها الأخيرة.

البرنامج الذي يواصل "التلفزيون العربي" عرضه منذ نحو ثلاثة أعوام، يستعرض مذكّرات شخصيّات مؤثرة في مرحلة تاريخية مهمّة من خلال بناء بصري يعتمد الأرشيف والصور بأسلوب الدوكودراما، أو الدراما الوثائقية، ويرصد جانباً من أسرارها، وكيف عايشت حقبة معينّة من التاريخ، في ربط معمّق ودقيق بين الأحداث والوقائع في تلك الحقبة، مع سيرة أحد أبرز الشهود الفاعلين عليها.

يتقصى البرنامج الموضوعية ولا يفرض وجهة نظر مسبقة على المشاهد

الكثير من الأسرار احتوتها المذكّرات عبر الزمن ولم تنتشر بحكم الأمر الواقع في غالب الأحيان، بحسب تعريف البرنامج، الذي يرصد أيضاً مذكّرات لم تُنشر بعد، ويقدّمها استناداً إلى بحث معرفي يتقصّى الموضوعية وتعدُّد الزوايا في تناول مراحلَ تاريخية عاشتها كلّ شخصية، من دون فرض وجهة نظر مسبقة على المشاهد.

تستعيد حلقة الحصري آراء صاحب كتاب "دفاعاً عن العروبة" حول أسباب انهيار العثمانيين بسبب "التلكّؤ في الإقدام على الإصلاح"، من منظور رجل ينتمي إلى الطبقة الوسطى وحاصل على شهادات عليا كانت تؤهّله أن يتقلّد مناصب سياسية رفيعة، لكنّه اختار أن يكون معلّماً في مدارس البلقان، حيث تبلورت لديه أفكاره القومية آنذاك، ليخلُص إلى أن تحديث التعليم لن يتحقّق دون إصلاح سياسي؛ الموقف الذي تمسّك به وزيراً في حكومات فيصل في العراق، وبعد رحيله إلى القاهرة في عهد عبد الناصر، لكنّه ظلّ ينظر إلى نفسه من موقع "فوق سياسي".

في حلقات أخرى، تتكرّس هوية البرنامج في طرحه تساؤلات ملحّة حول الواقع العربي في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كونها لا تزال حاضرة ومؤثّرة في زمننا الراهن، كما يعالجه في حلقة "مذكّرات مالك بن نبي.. نهضة الجزائر وتجديد الفكر الإسلامي المعاصر" التي بُثّت في التاسع من حزيران/ يونيو الماضي، من منظور شخصية شهدت "طور التحلّل" - وفق تعبيرها - الذي ألمّ بالحضارة الإسلامية، فكرّس حياته لمواجهة نوعين من العفن في العصر الجديد الذي ستعيشه هذه الحضارة ممثلاً بـ"الاستعمار والقابلية للاستعمار".

تتكرّس هوية البرنامج في طرحه تساؤلات ملحّة حول الواقع العربي

شهادة المفكّر الجزائري (1905 - 1973) حول زمانه انبنت على إحساس عميق بـ"الإهانة" حين غادر بلاده عام 1930 معاهداً نفسه على عدم العودة إليها إلّا بعد أن تصبح حرّة، فلم ينخرط ضمن النخبة الجزائرية المتفرنسة في باريس، وقاوم وعيه ذلك بدراسة أسباب الهزيمة والانحطاط عبر تحصيل العلم، والكتابة من منطلق تشريح الإنسان المستعمَر، والبحث عن الروابط التي تجمع أبناء الشمال الأفريقي وتوثّق صلاتهم بالمشرق، وكذلك وحدة أفريقيا وآسيا في مواجهة الاستعمار، غير آبه بالرقابة اللصيقة التي مارستها السلطات الفرنسية عليه ولا بتعرّضه للسجن والإقصاء.

لا يتعامل "مذكّرات" مع الحدث التاريخي، الذي هو محور اهتمامه، بشكل منعزل عن تحوّلات الأفكار والمتغيّرات الاجتماعية والثقافية، بل إنها تشكّل المختبر الذي يتفاعل من خلالها التوثيق الدرامي المتّسق مع المقولات والخلاصات المستمدّة من المذكّرات موضع الدرس، وكذلك مداخلات ضيوف البرنامج، للإحاطة بتفاصيل وأسرار تخطئها نظرة السياسيين المجرّدة.

على هذا النحو، تعرض الحلقة التي بُثت في الثاني والعشرين من نيسان/ أبريل 2021، مذكّرات الإمام محمد عبده التي دوّنها بشكل متناثر قبل أن تُجمع في كتاب بعد رحيله، حيث يتأمّل فيها فترة عصيبة وقعت فيها مصر تحت الاحتلال البريطاني وفساد السلطة الخديوية، وثورة قادها أحمد عرابي لم يُكتب لها الانتصار، ويلخّصها بقوله "إن لم توجد الحرّية فلا وطن". 

انتقد الإمام المُجدِّد (1849 - 1905) استبداد حكّام مصر آنذاك، الذين سرّهم أن يكونوا ملوكاً على "بلاد خربة ورعية ضئيلة وخاضعة للاستعمار"، ورأى أن الخطوة الأولى للخلاص من الظلم والطغيان يأتي به تعليم حديث واستقلالية القضاء ومؤسّسات الدولة وخلق وعي جديد يُسهم بنهضة حقيقية. ورغم أنه شغل العديد من المناصب بعد رجوعه من المنفى، إلّا أنه حافظ على مسافة تفصله عن السلطة.

يحضر تاريخ المنطقة في المئة وخمسين سنة الماضية، كما يصوّرها البرنامج، من خلال مذكّرات عدد من المفكّرين والمثقّفين الذين تركوا أثراً في مجرى الأحداث، وإن لم يتمكّنوا في أحيان كثيرة من تحقيق رؤاهم الطامحة. ولا تزال تلك الرؤى صالحة للتداول والتدبّر بها، وفق ما تطرحه كثير من الحلقات، مثل "مذكّرات معلّم الثورة الإيرانية علي شريعتي"، و"مذكّرات محمد أسد: الطريق إلى مكة - رحلة مفكّر غربي إلى القدس وشهادته عن الأطماع الصهيونية"، و"مذكّرات المؤرّخ والفقيه عبد الوهاب النجّار: كواليس ثورة 1919 المصرية ضدّ الاحتلال الإنكليزي"، وغيرها.

موقف

التحديثات الحية

"التلفزيون العربي": نسائم الربيع