"مذاق الجريمة" لماثياس وإيمانيال رو: حبكة روائية لها جمهورها

27 اغسطس 2024
استُمِدّت مادة الكتاب من معالجة أمهات القضايا الجنائيّة
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **الإعجاب بالجريمة**: يتناول كتاب "مذاق الجريمة" للأخوين رو ظاهرة الإعجاب بالمجرمين، والتي تتجلى في الأفلام والكتب، حتى لدى المفكرين، مما يثير تعاطف القراء والمشاهدين نحو المجرمين.

- **تحليل الظاهرة**: يعود الكتاب إلى جذور الظاهرة، مشيرًا إلى أن الجريمة تكسر رتابة الحياة اليومية. أطلق الباحثان مصطلح "hybristophilie" لوصف هذا الشعور، وتناولوا أمثلة من العلاقات العاطفية بين المجرمين والعالم الخارجي.

- **البعد الثقافي والاجتماعي**: يعالج الكتاب القضايا الجنائية التي هزت المجتمع الفرنسي، ويستعرض أعمال المفكرين الذين تناولوا الجرائم، مشيرًا إلى أن الفضول الطبيعي يدفع البشر لمعرفة خبايا السلوك الإجرامي.

الإعجاب بالجريمة شعور غامض، يُكنّه البعض تجاه المجرمين وفظاعاتهم فيصل إلى حدّ الانبهار والرغبة في التماهي معهم رغم أنهم "حُثالة المجتمع" وأشد إفرازاته توحشًا. هذا الإعجاب مفارقة حادة من مفارقات الإنسان الحديث، تتجلّى في العديد من الأفلام والمقالات والكتب التي تصدرُ، حتى لدى كبار المفكرين والأدباء، حول الجرائم الخَطرة التي تهزّ مجتمعاتنا المعاصرة للإبحار في نفسيات هؤلاء المنحرفين وعقلياتهم إلى درجة تكاد تجلب تعاطف القراء والمشاهدين فتُلين نحوهم القلوبَ. فهل نصدّق، مثلا، أنّ القاتل النرويجي أندريس بيهرينغ بريفيك، الذي أودى بحياة سبعة وسبعين بريئًا، يتلقى كل شهر ما يربو عن ثمانمئة رسالة حبّ وتقدير!

صوب هذه المفارقة الغريبة، يعود الأخَوَان ماثياس Mathias  وإيمانيال رو Emmanuel  Roux، أستاذان مُبرَّزان في الفلسفة، ضمن كتاب لهما صدر مؤخّرًا بعنوان: "مذاق الجريمة" Le Goût du crime (عن دار أكت سود) وهي محاولة فكرية تحلل أسباب هذا الشعور وتجلياته وذلك بالعودة إلى أخطر وجوه الإجرام في فرنسا خلال العصر الحديث وإلى ما أحيط بهؤلاء المنحرفين، مرتكبي الفظاعات، من إعجاب حدّ الأسْطَرَة، يتعارض مع ما يفترض أن يُكنّه لهم الناس من نفور واحتقار. 

يُذكّر الباحثان أنّ الجذور الأولى لهذا الكتاب تعود إلى أيام الطفولة عندما كانا يُرافقان أباهما المحامي إلى قاعات المحكمة ليشهدا المرافعات، وحينها اكتشفا أنّ الجريمة لصيقة بالمجتمع منفتحة عليه، كما لاحظا مدى انشداد "الجمهور" إلى الأعمال الوحشيّة التي تُرتكب في حق الأبرياء.

تهزّ الجريمة الرتابة اليومية وتكسر خطّية الحياة الاعتيادية

سعى الباحثان إلى تنظير هذا الشعور مُطلقين عليه مصطلحًا تقنيّا، ينحدر من الإغريقيّة: "hybristophilie" ويعني الإعجاب بمَن ارتكب اعتداءات على الغير. ويمكن ترجمته بـ"الانْهِمام بالجريمة". وقد عَزَوا السّبب الأول لهذا الانهمام إلى كون الحوادث المتفرقة تهزّ الرتابة اليومية للمجتمعات وتكسر خطية الحياة الاعتيادية فيها. وقد ينشد المتابعون إلى ما في الجرائم من إتقان ولا سيما في عمليات السطو والسّرقات الاستعراضيّة التي تتميز بدهاء الأساليب المستخدمة وحنكة المجرمين الخارقة في اجتياز العراقيل الواحدَ تلو الآخر. وقد ذكرا دليلا على هذا الانبهار أمثلة من العلاقات العاطفيّة التي نشأت بين بعض المجرمين والعالَم الخارجي وصلت إلى الزواج، مثل حالة ميشال فورنيي (قاتل ومغتصِب فرنسي) الذي تزوج بمونيك، فصارت شريكته في الحياة... وفي الجريمة.
 
ولمزيد من إيضاح هذا المفهوم، أكبّ الأخَوَان على معالجة أهم القضايا التي هزّت المجتمع الفرنسي، مثل قتل الطفل غريغوري ولغز شيفالين وغيرها من القضايا. ويشمل مفهوم "القضية" في تحليلاتهما كلّ ما يتصل بها من إجراءات وتحقيقات وأسرار قد تكشفها الصّحافة أو المفتشون الخاصّون، إلى جانب الأخطاء القضائيّة وتواطؤ بعض الأطراف الخارجة عن الحقل القانوني مثل رجال الإعلام والسّاسة، مما يجعل من كل قضية حبكة روائيّة حقيقيّة بما في الكلمة من ثقل.

ولعل البناء القصصي للقضايا هو ما يشدّ الانتباه ويثير الانبهار. ولذلك تشكل كلّ قضيّة وحدة سيميائيّة قائمةَ الذّات، تأسر المتابعين بخصائصها، مثل أية حبكة روائيّة يتفاعل معها الجمهور تعاطفًا ومتابعة فيظلّ يتعقب كل جديد يطرأ عليها، كما لو كان فيها أحد الأطراف المحرّكة لخيوطها.  

من حضيض الشرّ إلى مستوى الأناقة والتفوق لإبهار المتلقي

ولذلك وردت مادة الكتاب واقعيّة مُوَثَّقة، استُمِدّت من معالجة أمهات القضايا الجنائيّة التي أربكت الناس فتابعتْها وسائلُ الإعلام وخاضت غمارها الجمعيّات وحتى أحزاب السياسة وقادتُها، إذ غالبا ما تنساق هذه الشرائح وراء القضايا وما تشهده من اهتزازات واختراقات. ويشكل هذا الإعجاب بدوره مؤشرًا عمّا يعتمل في حشايا المجتمع الفرنسي من توترات ومخاوف وعواطف، إذ لا تطفو قضيّة على الساحة على حساب أخرى، إلا بسبب ما تثيره في ذلك المجتمع إبان طور دقيق من أطواره، من انفعالات معينة، ولذلك لا يبدي المجتمع نفس الاهتمام بكل القضايا.

كما استعاد الكاتبان كبارَ المفكّرين والأدباء والصحافيين الذين خصصوا أعمالاً، بعضها جماليّ، للمجرمين ومخالفاتهم حتى أوصلوها إلى حدَّ "التعالي الفني" الذي يرتفع بالحدث الإجرامي من حضيض الشرّ إلى مستوى الأناقة والتفوق الذي يُبهر المتلقي، كما لو كان لوحة مرسومة أو قطعة أدبٍ رائقة. واعتمدا بالخصوص أعمال رولان بارت وتحليلاته السيميولوجية وعلى "مواقف" جان-بول سارتر الفلسفية، ثم على توظيف رموز الجريمة في نصوص الكتاب الأدبية لتتغذى بما فيها من تشويق، كأنه ضربٌ من السحر.    

تقود هذه الظاهرة إلى سؤال: هل هذا الانهمام عامّ في كل المجتمعات الإنسانية أم إنه خاص بالمجتمع الفرنسي؟ الراجح أنه نزعة كونية تشمل كل المجتمعات المعاصرة المُعَوْلمة التي ترتفع فيها نِسَبُ الجريمة فتؤثر في التلقي الاجتماعي لها، ولا تبقيه بمنأى عنها، بل تؤثر فيها وتتأثر بها. وهو ما يُلاحظ فيما تثيره الجرائم في مجتمعاتنا العربية من أصداء ومتابعات واسعة، لاسيما بعد تغوّل وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهو ما يستدعي ربما إنجاز دراسات نظرية لهذا التلقي ضبطًا لعوامله ووظائفه. 

لكن، لا يمكن بحالٍ تصوير هذه الجرائم التي يرتكبها المنحرفون في فرنسا وغيرها على أنها مصدر إعجاب، إذ يكفي أن يضع القارئ نفسه موضع الضحيّة وأهلها حتى ينقلب الانشداد حَنَقًا وغيظا، لا تبرّده حتى العدالة التي غالبا ما تضيع في متاهة الإجراءات الجزائيّة المعقدة. هذا الإعجاب هو الآخر سلوك مَرَضي؛ وهو علاوة على ذلك مؤشر على أزمة المجتمعات الغربية التي تبحث عن صناعة "الأبطال" حتى بين صفوف المجرمين، تضخم وحشيتهم كما لو كانت إنجازا. 

نعم ثمة فضولٌ طبيعي أقرّه علماء النفس والإناسة لدى البشر جميعا، شعور يدفعهم إلى معرفة خبايا السلوك الإجرامي بتفاصيله، لكن ينبغي ألا يتحول هذا الفضول الطبيعي إلى انهمام بالانحراف ولا أن يصير تعلقا بالمحظور، في اختلال واضح للموازين الكونيّة والقيم الاجتماعيّة المطلقة التي لا تقبل التنسيب، مثل فظاعة الاغتصاب والقتل العمد، كما أكّد العقاد في دراساته النفسيّة التي تظل مرجعيّة فلسفية في هذا الموضوع، والفظاعة لا يمكن تسويقها بأي خطابٍ، بالغًا ما بلغ من الفصاحة والجماليّة، كما أكد ذلك تودوروف. 

وفي هذا الصدد، لا يسعنا إلا الإيماء إلى جرائم الاحتلال الإسرائيلي المقيتة وما ارتُكب ويُرتكب في سجونه من فظاعاتٍ بحق الأسرى فضلاً عن التقتيل المستمر منذ شهور، وهي جرائم لا يمكن أن تثير إلا الاشمئزاز والتقزز، لا الإعجاب والانبهار. ومن الضروري التساؤل، للمرة الألف، عن أسباب الصمت الغربي المريب حيالها، صمتٍ شارف المُباركة والإقرار، بل هو امتداد لنفس هذا الشعور الغامض الذي حلّله الأخَوَان رو: انهمام بجرائم يجعل من هذه البلدان شريكا فيها. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية