مديح الكتاب

12 اغسطس 2022
مقطع من بورتريه متخيّل لـ دانتي أليغييري (Getty)
+ الخط -

اللافت أن يكون الكتاب الورقي وحده، هو من يتعرض للسؤال عن المصير، إذ في كلّ مّرة تظهر فيها وسيلة جديدة لنشر المعلومات أو المعارف أو  لتصوير الحياة، بأيّ شكل أو لون أو طريقة، يتبادر إلى ذهن كثيرين من الناس أنهم لم يعودوا بحاجة للكتاب. وبناءً على هذا الاستنتاج تنشط التحقيقات الصحافية للبحث عن هذه "الحقيقة" الجديدة، أي عن المصائر التي تنتظر الكتاب،  فيتصدّرها التساؤل التالي: "هل ما زلتَ تقرأ الكتاب الورقي؟". كانت التوقّعات تشير لدى قطاع كبير من العاملين في حقل الثقافة والمعرفة إلى أن موعد النهاية بات قريباً.

وحين استطاعت التكنولوجيا أن تستولي على الكتاب في عملية قرصنة تاريخية، يمكن أن يقال عنها إنّها عظيمة مرّة، إذ استطاعت أن تجمع مئات آلاف الكتب في حيّز صغير، أو يقال إنها مدمّرة، إذ تستولي على أتعاب ومداخيل دُور النشر والكتاب معاً، وتحاول أن تحرم البشر من الكتاب، فإن الاستنتاج المتسرّع راح يقول إن عصر الكتاب الورقي قد زال وولّى وانتهى أمرُه إلى غير رجعة. 

وقد بدا كأن جهاتٍ كثيرة، وأوّلها تلك الحكومات المستبدّة التي انتشرت في معظم أرجاء العالم المعاصر لنا، كانت سعيدة بهذا المصير الذي يلاقيه، وبفضل انتشار الراديو أولاً، ثم التلفزيون الذي استولى، في واحدة من مراحل حياتنا، على أوقات الفراغ العربية سواء بين المتعلّمين أو غير المتعلّمين، ثم الكمبيوتر، بدا بالفعل أن الكتاب الورقي يُحتضر. وكانت الأرقام تنتصر للوصفة، فلا يطبع من أي كتاب عموماً أكثر من ألفي نسخة وما دون ذلك، ولا تباع تلك النسخ إلا بصعوبة. وهو ما يعني أنّهم في طريقهم للتخلّص من هذه "البلاء" الذي يستطيع أن يضع أفعالهم الشنيعة وتاريخ حكّامها المستبدّين وأعمالهم السيّئة تجاه شعوبهم كلّها بين دفّتيه، وأن يحتفظ بها لمئات أو لآلاف السنين.   

استنتاج متسرّع يدّعي أن عصر الكتاب الورقي قد ولّى وانتهى أمره

الطريف في شأن التحقيقات التي كانت تُجريها الصحف عن موعد التخلّص من الكتاب، هو أن ذلك الموعد لم يأتِ قط، بينما راحت، في واحدة من سخريات القدر، تختفي نسخ الصحافة الورقية التي كانت تجري التحقيقات ذاتها.

ظلّ الكتاب الورقي المطبوع يحتفظ بقوة البقاء، فقد استطاع أن ينجو في مرات كثيرة من فجوات قوانين الرقابة، إذا ما كانت هناك قوانين، أو يتخلّص من تشدّد المراقبين الذين لا يتمكّنون من إحصاء كلّ النقاط التي يتوّقع أن تزعج السلطات التي وظّفتهم. وفي حال لم يستطع أن يفلت من التنكيل المحلّي فإن وجود نسخةٍ واحدة من أي كتاب يكفي للتكاثُر في مكانٍ آخر إلى آلاف النسخ.

ومن غير المجدي لأي بلد من تلك التي لا تهمّها المعرفة والثقافة والعلوم أن تجعل من إحصاءاتها مقياساً على كساد الكتاب، وتراجع الرغبة البشرية في القراءة، ففي البلاد القارئة لا تزال الكتب تُطبَع عشرات أو مئات آلاف النسخ. إذ لا يسبّب الكتاب أي أضرار صحية، للعينين أو الأذنين، وهو الوحيد من بين الوسائل الأُخرى الذي لا يزال قادراً على أن يكون جزءاً من رومانسيات العشاق في تبادل الهدايا.

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون