تنشر "العربي الجديد"، على حلقات أسبوعية، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد، كتاب "مدن غير مرئية" لإيتالو كالفينو. يعدّ العمل من آخر ما ترجمه الأسعد قبل رحيله المفاجئ في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي.
مدن مستمرّة (4)
أنتَ تؤنّبني لأن كلّ حكاية من حكاياتي تأخذكَ مباشرةً إلى القلب من مدينة من دون أن تقول لك شيئاً عن المسافة الممتدّة بين مدينة وأخرى، وما إذا كانت تغطّيها بحارٌ أو حقول شوفان، غابات صنوبر أو مستنقعات. سأُجيبك بحكاية.
في شوارع سيسيليا، وهي مدينة شهيرة، التقيتُ مرّةً براعي ماعز، يدفع قطيعاً ترنّ أجراسه بمحاذاة الأسوار.
توقّف وسألني: "باركتك السماء أيها الإنسان، هل يمكنكَ إعلامي باسم المدينة التي نحن فيها؟"، صحتُ مندهشاً: "لتكن الآلهة في عونك، كيف يمكنكَ أن تُخفق في التعرّف على مدينة سيسيليا الشهيرة؟".
أجاب ذلك الرجل: "حِلمُكَ عليّ، أنا راعٍ جوّال. بين وقت وآخر يكون علينا، أنا وماعزي، المرورُ عبر مدن، ولكنّنا غير قادرين على التمييز بينها. اسألني عن أسماء أراضي المراعي: أعرفها كلّها، مرعى المرج بين الجروف، السفح الأخضر، العشب المظلّل. المدن لا أسماء لها بالنسبة إليّ: إنها أماكن بلا أوراق شجر، تفصل بين مرعىً وآخر، وحيث ترتعب الماعز عند زوايا الشوارع وتتبعثر. وأركض أنا والكلب للحفاظ على القطيع مجتمعاً".
قلت: "أنا على النقيض منكَ؛ لا أتعرّف إلّا على مدن ولا أستطيع تمييز ما هو خارجها. في الأماكن غير المأهولة يختلط كلّ حجر وكل أجمة عشب في نظري بكلّ حجر آخر وأجمة عشب أخرى".
منذ ذلك الحين مرّت سنواتٌ عديدة، عرفتُ فيها المزيد من المدن وعبرتُ قارّات. وذات يوم كنت أسير بين صفّين من بيوت متماثلة؛ كنت ضالّاً. سألت أحد المارة: "ليحْمِكَ الخالدون، هل يمكنك أن تخبرني في أيّ مكان نحن؟".
أجاب: "في سيسيليا؛ أسوأ حظّ! لقد قضينا أنا وماعزي دهراً جائلين في شوارعها، ولا نستطيع العثور على مخرج لنا منها...".
وتعرفتُ عليه، رغم لحيته البيضاء الطويلة؛ لقد كان الراعيَ نفسه الذي التقيتُ به منذ زمن طويل. كانت تتبعه بضع عنزات جرباء، لم تصدر عنها رائحة كريهة حتى. كانت مهزولة لم يبقَ منها سوى الجلد والعظام. لقد تغذّت على الأوراق المهملة في صناديق القمامة.
"هذا محال!"، صرختُ، "أنا أيضا دخلتُ مدينةً، لا أستطيع تذكر متى، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتوغّل في شوارعها أعمق فأعمق. ولكن كيف تسنّى لي الوصول إلى حيث تقول، بينما كنت في مدينة أخرى بعيدة كلّ البعد عن سيسيليا ولم أغادرها بعد؟".
في ماروزيا تُشاهد شقّاً يُفتح ومدينة مختلفة تظهر
قال راعي الماعز: "الأمكنة مختلطة. سيسيليا موجودة في كل مكان. هنا، في زمن من الأزمان، لا بدّ أنه كان يوجد مرجُ الحكيم المتواضع. إن ماعزي يتعرّف على العشب فوق الجزيرة المخصّصة لمرور المُشاة".
■ ■ ■
مدن مخفيّة (3)
قالت عرّافة سُئلت عن مصير ماروزيا: "أرى مدينتين، مدينة جرذ، ومدينة سنونو".
وكان هذا هو تأويلُ الوحي: اليوم ماروزيا مدينة يجري فيها الجميع عبر مجازات كئيبة مثل مجموعات من الجرذان، جرذان ينتزع أحدها من أسنان الآخر فضلاتِ طعام تتساقط من أسنان أشدّها شراهةً؛ ولكنّ قرناً جديداً على وشك أن يبدأ، قرناً سيُحَلّق فيه كلّ سكّان ماروزيا مثل طيور السنونو في سماء الصيف، ينادي أحدهم على الآخر كما لو في مباراة، متباهين، أجنحتهم ثابتة وهم ينقضون منظفين الهواء من البعوض والناموس.
قال أكثرهم تصميماً: "آن أوانُ أن ينتهي قرن الجرذ، وأن يبدأ قرن السنونو". في الحقيقة، تحت الهيمنة الجرذية المقيتة وضيّقة الأفق، يمكنكَ الإحساس سَلَفاً ــ وسطَ أقلّ الناس وضوحاً ــ بتفكُّرٍ واستعدادٍ لتحليقٍ شبيه بتحليق السنونو وهو يتّجه نحو الهواء الشفّاف بنفضة ذيلٍ بارع، راسماً بحوافّ أجنحته منحنى أفقٍ مفتوح.
عدتُ إلى ماروزيا بعد سنوات عديدة: لبعض الوقت أُعتبرتُ نبوءة العرّافة قد تحقّقت؛ القرن القديم ميّتٌ ومدفون، الجديد في ذروته. لا ريب أن المدينة تغيّرت، ربّما نحو الأحسن. ولكنّ الأجنحة التي رأيتها تتحرّك حولي هي أجنحة لتلك المظلّات المُريبة التي تُسبَل تحتها أجفانٌ ثقيلة؛ هناك أناس يعتقدون أنهم يحلّقون، ولكنْ ستكون مأثرة من مآثرهم الآن لو استطاعوا الفرار من الأرض مُرفْرفين بمعاطفهم الشبيهة بالوطاويط.
يحدث أيضاً، إذا مشيتَ بمحاذاة أسوار ماروزيا المُحكمة، وحين يكون توقّعكَ عند الحدود الدنيا، أن تشاهد شقّاً يُفتح ومدينة مختلفة تظهر. ثمّ، وبعد لحظة، تكون قد تلاشت. كلّ شيء يتوقّف ربّما على معرفة أيّة كلمات نقول، وأية أفعال نأتي بها، ووفق أيّ نظام أو إيقاع؛ وإلّا خلاف ذلك ستفي بالغرض نظرةٌ محدّقة من أحدهم، أو جوابٌ، أو إيماءة؛ وبالنسبة إلى بعضهم يكفي أن يفعل شيئاً يقوم به من أجل المتعة الصرفة، ولمتعته في أن يصبح ممتعاً لآخرين: في تلك اللحظة يتغيّر كلّ فضاء، وكل الارتفاعات والمسافات؛ تتغيّر هيئة المدينة، تصبح بلّورية، شفّافة مثل يعسوب. ولكنْ يجب أن يحدث كلّ شيء كأنما مصادفة، من دون تعليقِ أهمّيةٍ مبالغٍ فيها عليه، من دون إصرار على أنك تقوم بأداء عملية حاسمة، متذكّراً بجلاء أن ماروزيا القديمة ستعود في أية لحظة، وتلحم سقوفها الحجرية وشبكات عناكبها وترابها فوق كلّ الرؤوس.
هل كان الوحي مخطئاً؟ ليس بالضرورة. إنني أفسّره بهذه الطريقة: تتكوّن ماروزيا من مدينتين، مدينة الجرذان ومدينة السنونو؛ كلتاهما تتغيّر مع الزمن، ولكنّ علاقتهما ببعضهما لا تتغيّر؛ الثانية هي التي على وشك أن تحرّر نفسها من الأولى.
■ ■ ■
مدن مستمرة (5)
لأحدّثكَ عن بنثيسلا، عليّ أن أبدأ بوصف المدخل المؤدّي إلى المدينة. أنتَ، بلا شكّ، تتخيّل رؤيتكَ لأطواق من الأسوار ترتفع من السهل المُترب وأنت تقترب ببطءٍ من البوّابة، المحروسة من قِبَل رجال جمارك ألقوا سَلَفاً نظرات شزراء على رُزَمك. أنت خارجها إلى أن تصل إليها؛ أنتَ تمرّ تحت مجازٍ مقنطَر ثم تجد نفسك في قلب المدينة، تُحيط بك سماكَتُها المركّبة؛ وهناك مخطّطٌ محفور على حجرها، سينكشف لك إذا اتّبعتَ خطّ كفافه المثلّم.
تتغيّر هيئة المدينة، تصبح بلّورية شفّافة مثل يعسوب
إن كان هذا ما تعتقده، فانتَ مخطئ: بنثيسلا مختلفة. إنك لَتتقدّم طيلة ساعات وليس واضحاً بالنسبة إليك ما إذا كنتَ في قلب المدينة أم أنك ما زلتَ خارجَها. مثل بحيرة ذات شواطئ منخفضة ضائعة في المستنقعات، هكذا تنتشر بنثيسلا أميالاً حولك، مدينة حسائية مخفّفة في السهل؛ مبانٍ شاحبة قائمة ظَهراً لظهر في حقول رثّة، وسطَ سياجات من ألواح خشبية وسقائف حديديّة مموّجة.
بين حينٍ وآخر، عند حوافّ الشارع، مجموعةُ منشآت ذات واجهات مسطّحة، عالية جدّاً أو منخفضة جدّاً، مثل أسنان مشْطٍ ناتئة، يبدو أنها تشير إلى أنه من هنا سيتكاثف نسيج المدينة. ولكنّك تُواصل مسيرك وتجد بدلاً من ذلك فراغاتٍ مبهمةً أخرى، ثمّ ضاحيةً عتيقة لمعامل ومخازن ومقبرة، مدينةَ ملاهٍ بعجلة دوّارة، خرائب؛ تهبط شارعاً ذا دكاكين مهزولة تبهت وسط قِطَع أراضٍ صغيرة لريفٍ مجذوم.
إذا سألتَ الناس الذين تلتقي بهم: "أين بنثيسلا؟"، يومِئون إيماءةً غير محدّدة، قد تعني "هنا" أو قد تعني "هناك بعيداً" أو "حولك في كل مكان" أو حتى "في الاتّجاه المقابل". وتسأل بإلحاح: "أعني المدينة"، فيُجيب أحدهم: "نحن نجيء هنا للعمل في كلّ صباح"، بينما يقول آخرون: "نحن نعود هنا ليلاً لننام".
وتسأل: "ولكن، أليست المدينة حيث يعيش الناس؟".
فيقولون: "لا بدّ أنها في ذلك الاتّجاه".
ويرفع بعضهم ذراعه مائلاً نحو تجمّعات معتِمة متعدّدة السطوح تلوح في الأفق، بينما يشير آخرون، وراءك، إلى شبح قِمَمٍ أخرى.
"إذن، أنا مررتُ بها من دون أن ألحظها؟".
"لا، حاول المضيّ قُدماً".
وهكذا تستمرّ، عابراً من ضواحٍ إلى أخرى، ويحين أوانُ مغادرة بنثيسلا. تسأل عن الطريق المؤدّي إلى خارج المدينة، تمرّ مرّةً أُخرى بسلسلة ضواحٍ متناثرة مثل أصباغ أصابها النمَش؛ يهبط الليل، تُضاء النوافذ، متفرّقةً هنا وأكثر تقارُباً هناك.
إنّك تتخلّى عن محاولة فهم ما إذا كانت ثمّة بنثيسلا مخفيّة في جيبٍ ما أو تجعيدةٍ في هذه الأنحاء المهدّمة، يمكن أن يتعرّف عليها الزائر ويتذكّرها، أو ما إذا كانت بنثيسلا ليست إلّا ضواحيها. السؤال الذي يبدأ الآن بقرْض ذِهنك أشدُّ تبريحاً: خارجَ بنثيسلا، هل يوجد خارجٌ؟ أو، لا يهمّ كم ابتعدت عن المدينة، هل ستمرّ فقط من منطقةِ أعرافٍ إلى آخرى، غيرَ قادرٍ على مُغادرتها أبداً؟
* ترجمة: محمد الأسعد