مدن غير مرئية.. أُقايض أكياس فُلفل في أسواق نائية (11)

26 ديسمبر 2021
ماهر رائف، قلم رصاص وباستل على ورق، 20 × 27،5 سم
+ الخط -

تنشر "العربي الجديد"، على حلقات أسبوعية، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد لكتاب "مدن غير مرئية" لإيتالو كالفينو. يعدّ العمل من آخر ما ترجمه الأسعد، قبل رحيله المفاجئ في أيلول/ سبتمبر الماضي.

 

"... هكذا إذاً، رحلتكَ هي رحلة عبر الذاكرة في الواقع".
اعتدل الخان الأكبر، وأذناه متنبّهتان دائماً، في أرجوحة نومه، مثلما يعتدل كلّما التقط رنّة حسرةٍ في كلام ماركو، وهتفَ متعجّباً: "ما كان ذهابك إلى هذا المدى البعيد إلّا لتسلخ عنك عبء التّوق إلى الماضي"، أو بطريقة أخرى: "أنت تعود من رحلاتك بحمولةٍ من الحسرات". وأضاف متهكّماً: "إنّها لَمشتريات ضئيلة القيمة ــ والحقّ يُقال ــ بالنسبة إلى تاجر من جمهورية فينيسيا الأكثر جلالاً بين الجمهوريات".

كان هذا هو هدف كلّ أسئلة قبلاي عن الماضي والمستقبل. لقد ظلّ يلهو بها ساعة من الزمن مثل قطّة تُلاعب فأراً، وأخيراً تمكّن من ماركو وظهر هذا إلى الجدار، هاجماً عليه، واضعاً ركبةً على صدره، ممسكاً به من لحيته: "هذا هو ما أردت سماعه منك؛ اعترف بما تهرّبه: أمزجةً، حالات نعمة، مراثيَ".

ربما لم تكن هذه الكلمات والأفعال إلّا كلمات وأفعالاً متخيّلة، وهما صامتان بلا حركة يراقبان الدخان يرتفع ببطء من غليونيهما. تتبدّد الغيمة أحياناً في هبّة ريح، أو خلاف ذلك تظلّ معلّقة في الهواء؛ وكان الجواب في تلك الغيمة. وفكّر ماركو، والنفخة تحمل الدخان بعيداً، بالضباب الذي يغشى امتداد البحر والسلاسل الجبلية، ثمّ وحين يتبدّد، يترك الهواءَ جافّاً وشفّافاً، مُظهراً مدناً نائية. ما رغبتْ نظرته المحدّقة في الوصول إليه، كان أبعد من شاشة تلك الدعابات المتقلّبة: إنّ شَكْل الأشياء عن بعدٍ يُمكن أن يُدرَك أفضل.

ستجد مدينة موريانا بعد أن تخوّض في النهر وتعبر الجبل

أو خلاف ذلك، تتأرجح الغيمة، وهي لم تكد تغادر الشفتَيْن، كثيفةً وبطيئة، وتوحي برؤيا أخرى: بالزفرات المعلّقة فوق سقوف العواصم، بالدخان المعتِم الذي لا يتبدّد، بقلنسوة البخار الخانق الذي يُثقل على الشوارع المُسَفْلَتة. لا ضباب الذاكرة المتقلّب ولا الشفافية الجافّة، ولكنْ تفحّم الحيوات المحترقة هو ما يشكّل قشرةً فوق المدينة، الإسفنجة المنتفخة بالمادة الحيّة التي لم تعد تتدفّق، زحام الماضي، الحاضر، المستقبل، ذلك الذي يسدّ طريق الموجودات المتكلّسة في وَهْم الحركة: هذا هو ما ستجده عند نهاية رحلتك.


■ ■ ■


قبلاي: لا أعرف متى توفَّرَ لك وقتٌ لزيارة كلّ البلاد التي تصفها لي. يبدو لي أنك لم تنتقل من هذه الحديقة أبداً.

بولو: كلّ ما أراه وأفعله يتّخذ معنىً في فضاءٍ ذهنيّ يسود فيه الهدوء نفسه الذي يسود هنا، الظلُّ الناقص نفسه، الصمتُ نفسه الذي يتخلّله حفيفُ أوراق الشجر. في اللحظة التي أركّز فيها وأتأمّل، أجد نفسي مرّةً أخرى، ودائماً، في هذه الحديقة، في هذه الساعة المسائية، في حضورك الجليل، مع أنني أواصل، من دون لحظة توقّف، الإبحارَ في نهرٍ مخضرّ بالتماسيح، أو احتساب عدد براميل السمك المملّح حين إنزالها في عنبر السفينة.

قبلاي: وأنا أيضاً، لستُ واثقاً من أنني هنا، أتجوّل بين نوافير الحجر السمّاقي، صاغياً الى رشّاش الصدى المتناثر، ولست راكباً على رأس جيشي، مسربَلاً بالعرق والدم، غازياً الأراضي التي سيكون عليك وصفها، قاطعاً أصابع المهاجمين المتسلّقين جدران قلعة محاصرة.

بولو: ربما لا تظهر هذه الحديقة إلى حيّز الوجود إلّا في ظلّ أجفاننا المُسْبَلة، ولا نتوقّف أبداً: أنتَ عن إثارة الغبار فوق ميادين المعارك، وأنا عن مقايضة أكياس فلفل في أسواق نائية. ولكن في كلّ وقت نُغمض فيه عيوننا نِصف إغماضة، في وسط الضوضاء والزحام، يُسمح لنا بالانسحاب إلى هذا المكان، مرتدين كِيمونَيْن حريريّين، للتفكّر في ما نراه ونعيشه، لاستخلاص نتائج، للتأمّل عن بُعد.

متى توفَّرَ لك وقتٌ لزيارة كلّ البلاد التي تصفها لي؟

قبلاي: ربما يدور حوارنا هذا بين شحّاذَيْن ملقّبَيْن قبلاي خان وماركو بولو؛ وهما ينخلان كوم قمامة، يكدّسان حطاماً صدئاً، مِزَقاً من ثياب، أوراقاً مهملة، ويشاهدان أثناء ذلك، وقد أسكرتهما بضع رشفات من نبيذ رديء، كلّ كنوز الشرق تتوهّج حولهما.

بولو: ربما كلّ ما تبقّى من العالم أرضٌ خرابٌ مغطّاة بأكوام قمامة، وحديقة قصر الخان الأكبر المعلّقة. ما يفصل بينهما أجفانُنا، ولكنّنا لا نستطيع معرفة أيّهما في الداخل وأيّهما في الخارج.


■ ■ ■


مدن وعيون (5)

حينما تكون قد خوّضتَ في النهرِ، حينما تكون قد عبرتَ الممرَّ الجبليَّ، تجد أمامكَ مدينة موريانا فجأةً. بوّاباتها المرمرية تلتمع في ضوء الشمس، أعمدتها المرجانية تدعم مثلثات في الواجهة ملبّسة بصخور خضراء مرقّطة، كلّ داراتها من زجاج مثل أحواضٍ مائية تسبح فيها ظلالُ فتياتٍ بحراشفَ فضّيةٍ راقصاتٍ تحت ثريّات ميدوزية الهيئة. إن لم تكن هذه هي رحلتك الأولى، فأنت تعرف مقدّماً أنّ لمدنٍ مثل هذه وجهاً مقابلاً: ما عليكَ إلّا أن تسير في شبه دائرة، وستدخل في مشهد وجه موريانا المخبّأ: امتداد لوحٍ معدنيّ صدئ، خيش، ألواح خشبية مثبّتة بمسامير ضخمة، أنابيب سوّدها السناج، أكداس من عُلب صفيح، جدران عمياء عليها علاماتٌ باهتة، إطارات مقاعد قشّ مهشّمة، حبال لا تصلح إلّا ليشنق امرؤٌ نفسه بها متدلّياً من عارضة خشبية متآكلة.

من جانبٍ إلى آخر، يبدو أن المدينة، وفقاً لقواعد المنظور، تُواصِل مضاعفة مخزونها من الصور: ولكنّها عدا هذا لا تمتلك سَماكةً، إنها لا تتكوّن إلّا من وجهٍ ووجه مقابل، مثل قطعة ورق، ذات شكلٍ على كلا الجانبين، لا يمكن فصل أيّ منهما عن الآخر، ولا أن ينظر أحدهما إلى الآخر.

يكدّسان مزقاً من ثياب ويشاهدان كنوز الشرق تتوهّج حولهما


■ ■ ■


مدن وأسماء (4)

كلاريس، المدينة المتألّقة، ذات تاريخ معذَّب. تضمحلّ عدّة مرّات ثم تزدهر مرّة أُخرى، محتفظةً دائماً بكلاريس الأولى بوصفها نموذجاً لكلّ فخامة لا مثيل له، ولا يمكن أن تسبّب مقارنته بحالة المدينة الراهنة إلّا المزيد من التنهّدات عند كلّ تلاشٍ دوريّ للنجوم.

في عصور انحطاطها، وقد أفرغتها الأوبئة، وتضاءل علوُّها بالعوارض والأفاريز المنهارة وتغيُّرات التضاريس، وصدئت وتوقّف صعودها بسبب الإهمال أو فقدان عمّال الصيانة، أصبحت المدينة مسكونة مرّة أخرى ببطء مع بروز الناجين من الأقبية والملاجئ، قطعاناً محتشدة بأعداد كبيرة مثل جرذان، تدفعها ضراوتها إلى التنقيب والقضم، والجمع والتلصيق أيضاً رغم هذا، مثل طيور تبني أعشاشاً. وانتزعتْ كلّ ما يمكن أن يؤخَذ من المكان الذي كان فيه، ووضعته في مكان آخر ليخدم غرضاً مختلفاً: انتهت الستائرُ المطرّزة إلى أن تصبح ملاءات أسرّة، وزرعتْ الريحان في جرار حفظ عظام الموتى الرُّخامية، وانتزعتْ مشربيات الحديد المزخرف من نوافذ غرف الحريم، واستخدمتها لشواء لحم القطط على نيرانٍ وقودُها من خشبٍ مرصّع.

واتّخذت كلاريس ناجيين، وقد وُضعت جنباً إلى جنب مع نُتَف كلاريس الشاذّة التي لا نفع فيها شكلاً، وجميعها أكواخٌ وزرائب مكشوفة ومجارٍ منتنة وأقفاصُ أرانب. ومع ذلك لم يُفقد شيء من روعة كلاريس الأولى تقريباً، كلّها كانت هنا،  نُظمت مجرّد تنظيم بترتيب مختلف، لا تقلّ ملائمةً لحاجات السكّان عما كانت عليه من قبل.

بوّابات مرمرية وواجهاتٌ ملبّسة بصخور خضراء مرقّطة

وجاءت بعد أيّام الفقر أوقاتٌ أكثر بهجة: برزت من خادرة كلاريس الأفقر فراشةُ كلاريس مترفة. وجعلت الوفرة الجديدة المدينة تفيض بموادّ جديدة، مبانٍ، أشياء؛ احتشد فيها أناسٌ جددٌ قادمون من الخارج؛ لا شيء، لا أحد له أيّة صِلة بكلاريس  الأولى أو الكلاريستَيْن. وكلّما ازداد رسوخ المدينة الجديدة رسوخَ منتصر في مكانِ واسمِ كلاريس الأولى، كلّما ازدادت إدراكاً أنها كانت تنتقل بعيداً عنها، مدمّرةً إيّاها بسرعة لا تقلّ عن سرعة الجرذان والعفن. ولكنّ المدينة، رغم افتخارها بثروتها الجديدة، شعرت في القلب منها بذاتها متنافرة، مغتربة، مغتصبة.

وعندئذ نُقلت مرّة أخرى كِسَرُ الروعة الأصلية التي تمّ الحفاظ عليها، بتكييفها لاستخدامات أشدّ غموضاً. إنها الآن مُصانة تحت أجراس زجاجية، حبيسة صناديق عرض، مرتّبة على حشايا مخملية، وليس لأنها ربما ما زالت تُستخدم من أجل شيءٍ ما، بل لأن الناس أرادو أن يُعيدوا بوساطتها إنشاء مدينة لا أحد يعرف عنها شيئاً الآن.

المزيد من الانحطاطات والمزيد من الازدهارات تتعاقب على كلاريس، تتبع إحداها الأخرى. تتغيّر العادات والسكّان بضع مرّات، ويبقى الأشدّ استعصاءً على الانكسار، الاسم والموقع والأشياء. كلّ كلاريس جديدة، وقد اكتنزت مثل جسد حيّ بروائحها ونفسها، تعرض متباهية، مثل جوهرة، ما يبقى من الكلاريسات القديمات، متشظّياً وميتاً.

لا يُعرف متى قامت التيجان الكورنثية على قمم أعمدتها: لا يُتَذكَّر إلّا واحدٌ منها فقط، لأنه لسنوات عديدة دعم، في فناء تربية دجاج، السلّة التي تضع فيها الدجاجات بيضها، ومن هناك نُقل إلى متحف التيجان، في صفٍّ واحد مع عينات المجموعة الأخرى. لقد ضاع نسقٌ تتابعِ العهود؛ هناك اعتقادٌ واسع الانتشار بأن كلاريس الأولى ظهرت إلى حيّز الوجود، ولكن لا وجود لأدلّة تدعم هذا الاعتقاد. قد تكون تيجان الأعمدة موجودة في أفنية تربية الدجاج قبل أن تكون في المعابد، جرارُ حفظ رماد الموتى الرخامية قد تكون زُرعت بالرّيحان قبل أن تُملأ بعظام الموتى. ليس معروفاً على وجه اليقين إلّا هذا: أن عدداً معيّناً من الأشياء يتغيّر ضمن مكانٍ معيّن، أحياناً تغمره كمّية من أشياء جديدة، أحياناً يبلى ولا يتمّ استبدال شيء به؛ القاعدة هي خلط الأشياء في كلّ وقت، ثم محاولة تجميعها. ربما لم تكن كلاريس دائماً سوى خليطٍ مشوّشٍ من حِلىً رخيصة مشظّاة، غير متجانسة، عتيقة الطراز.


* ترجمة: محمد الأسعد

المساهمون