حتّى ذلك الوقت، وأنا مكتفٍ باتّباع نهر لينا، لم أجد صعوبة في تبيُّن طريقي. ولكنّ الأشياء تغيّرت الآن، لأنّي عندما غادرت ماشا حيث قضّيتُ اللّيل في قاعدة منجميّة، سرتُ مشيًا نحو الجنوب، في اتّجاه بيقال. لم أجرؤ بعد على دراسة مُجمل خرائطي خِشية الإصابة بالغثيان من جرّاء الشّسوع. (لأنّ من يعبر المساحات المترامية ببطء مشّاء بائس، تبدو له الخريطة الجغرافيّة لوحة تجريديّة ذات حدود لا تُدرَك). جعلتُ لنفسي بالعكس غايةً غير مفرطة كثيرًا: وادي فيتيم. على أيّ حال هي حافز جيّد ما دام رافيتش يذكر أنّها محطّة هامّة في مسيرته نحو بيقال.
توغّلتُ في التّيغة التي استعادت حقوقها عند حافة آخر حقول البطاطا في ماشا. ثنيّة موحلة تقود حسب خرائطي إلى منجم ذهب يبعد مسافة ستّين كيلومترًا. عندما ظهرت منعرجات في سفح تلة، مضيتُ عبر شعور التّيغة، أكسر مع كلّ خطوة أعواد التّنّوب. وكلّما ابتعدتُ عن سرير لينا ازددتُ علوًّا. صارت الأرض أكثر جفافًا، والتّيغة أقلّ كثافة. اكتأبت لفراق النّهر ذي المسير الشّاكي. كان الجلجل يوقّع خطوتي، وعند قدوم المساء يُعلمني الـ "جي بي إس"، أنّي قطعتُ خمسة وثلاثين كليومترًا دفعة واحدة، وهذا ليس بالأمر الهيّن ويناسب في الواقع معدّلًا رافيتشيًّا مشرّفًا، ما دام البولنديّ يلتهم بين أربعين وخمسين كيلومترًا في اليوم خلال أشهر فراره الأُولى. انحدر النّهار إلى المغيب ببطء، ولكن دون زوال تامّ، مثل قنديل زيتيّ نُخّفتُه دون أن ننفخ فيه إطلاقًا.
اكتشفتُ صدفة على حافة ثنيّةٍ عزبةً مهجورة. في داخلها كرسيّ خشبيّ نظيف وقشّ: نعمة. أقمتُ هناك مُخيِّمًا من أكثر المخيَّمات راحة: فالنّوم على القشّ لدى المتشرّد رفاه. بعد أن لففت بعناية نقانقي الجافّة في أكياس صغيرة حتّى لا تجلب رائحتها الدّببة، قرأت بعض القصائد (لحظة نعاس لطيفة) ونمت.
أفقت منتفضًا على صوت هدير محرّك. شاحنة وقفت أمام الكوخ. السّاعةُ هي الثّانية صباحًا. ضياء أخضر مزرّق يُضبّب الأفق. فُتح الباب بعنف. وقبل أن أخرج من كيس نومي، كان قد غزا المقعد قطيع من الخنازير يتبعها موجيك يشبعها ضربًا وشتمًا. أبصرني.
- "ماذا تَـ...".
- "أنا فرنسيّ. في سفر. كنت نائمًا...".
بعدها ببرهة، كنت جالسًا مع جينا (وهذا واحد آخر!). بين حزمتي قشّ وبيد كلّ واحد كأس. كان قد جاء من الشّاحنة بزجاجة فودكا ليحتفل بلقائه بمُواطن فرنسيّ، لأنّ جينا، وكذلك سائر الرّوس، من أشدّ المُعجَبين بنابليون (ولكن هل كان الرُّوس سيحبُّونه لو انتصر؟). قال لي إنّه جاء بهذه الخنازير الخمسين لتسليمها إلى عمّال منجم الذّهب الذين سيأتون لتسلُّمها غدًا. شربنا على القشّ ونحن نأكل شرائح من شحم الخنزير حتّى الرّابعة صباحًا. كحول، نقانق، خنازير حيّة: كنت أعيش كابوسَ مُسلِم... فجأة، وبعد صمت طويل استخدمته في ملاحظة الخنازير، قلت:
- "جينا، ليس ثمّة سوى تسعة وأربعين!".
- "نييت، خمسون!".
أعدتُ العدّ:
- "تسعة وأربعون!".
- "خمسون".
تراهنّا. مائة روبل لمَن هو على صواب. وضعتُ أمتعتي في أعلى كدس من القشّ. ينبغي أوّلًا فصلُ الخنازير. على اليمين، تلك التي تمّ احتسابها، وعلى اليسار، البقيّة. غير أنّ الخنازير لم تخضع للعمليّة، إذ هجمت على أكداس الحطب. كثير منها أفلتَ من بين أيدينا، حتّى صرنا نخشى أن نعدّها مرّتين. اصطدم معظمُها بأرجلنا وهي تهجم بغباء حيثما اتّفق. نفد صبر جينا، فأمسك الخنازير بكلتا يديه بتوتّر وجعل يرمي بها في ركن كنت أراقبه – قد سبق تخصيصه للخنازير التي تمّ احتسابها – ويصرخ:
- "سبعة عشر... ثمانية عشر... تسعة عشر...".
وبسبب الكحول والرّفس واللّبط، وقعنا أكثر من مرّة، فتسبّبنا في صراخِ هلعٍ تُطلقه الخنازير. كان المشهد قياميًّا. ازداد الرّوسيّ توتّرًا، ففي غمرة الزّحام، احتسب في البداية اثنين وخمسين خنزيرًا، ثمّ تسعة وأربعين. عندما صرّح لي أنّه ذاهب لكي يجيء من الشّاحنة بطلاء كي يعلّم على الخنازير، مددتُ له ورقة بمائة روبل.
- "دعك من هذا، لقد ربحتَ".
شربنا مرّة أخيرة، ثمّ انصرف جينا بعد وداع سريع، وتركني على القشّ، سكران سُكرًا يمنعني من ثنيه عن استئناف طريقه على الشّاحنة. عندما صحوتُ من الغد في حدود السّاعة الحادية عشرة، كانت الخنازير (وعددُها خمسون) لا تزال هنا، والشّمس قد ارتفعت في السّماء، ورأسي يريد أن يموت جسدي، وعلى جبيني بقعة حمراء من أثر عارضةٍ نِمْتُ ووجهي عليها مباشرة.
وصلت مساءً إلى منجم الذّهب الذي تُشير إليه خرائطي الأميركيّة ذات سلّم 000/1 500. نفد زادي. وكيلومترات المشي الثّلاثون لم تبدّد تمامًا البراكين الكحوليّة في جمجمتي.
المنجم. استقبلت بحفاوة. قادني فلاديمير وجينا (الثّالث في ثلاثة أيّام!) لزيارة الأمكنة. التّجهيزات تتألّف من عزبات مهيّأة حول تخشيبة، يُحيط بها هي نفسها سياج يحمل ذلك النّوع من اللّافتات: "يمنع الاقتراب منعًا باتًّا"، "منطقة محظورة بشكل صارم، خَطَر!". استنتجت من ذلك أنّ في هذا المكان يودَع الذّهب. هناك أيضًا شاحنات، وبلدوزرات، وصفائح صدئة، وكمثل غطاء وُضع عليها كلّها جوٌّ من اليأس لا يوصف. والمنقّبون عن الذّهب نحو ثلاثين يعملون على عين المكان.
- "الحياة هنا؟ هي مثل سجن الأشغال الشّاقّة، عدا أنّنا نتقاضى أجرًا جيّدًا"، قال فلاديمير.
حيثما يوجد الذّهب، يوجد المال! دُعيت إلى قاعة الأكل: تخشيبة طويلة من الحطب المدوّر، مرصوصة بمقاعد عريضة يجلس عليها العمّال لينال كلّ واحد منهم عصيدة في جفنة معدنيّة. قُدّمت لي بطاطا وسمك مقليّ وكمثرى مطبوخة بكمّيّات وافرة.
بصرف النّظر عن وفرة الأكل، يُخيّم هنا جوٌّ من مخيّم اعتقال، ربّما بسبب اكفهرار التّيغة، وملمح وجوه مضيفيّ المشوّهة. والفارق بينه وبين السّجن أنّ النّاس هنا جاؤوا يكابدون عملهم ووحدتهم بمحض إرادتهم، يغريهم أجر يفوق عشر مرّات متوسّط الدّخل في روسيا.
نهار جديد من المشي على الثّنيّة المحفورة باطّراد، والتي تقودني إلى مولدفو، بوّابة منجم الذّهب على مسافة خمسة وثلاثين كيلومترًا من محطّتي الأخيرة. كوليا، الأوكرانيّ الذي استقبلني، لا يريد أن يصدّق أنّي قطعت الطّريق مشيًا منذ نهر لينا.
هنا، أسرَّ إليّ: "نعيش كالمنسيّين، مولدفو جزيرة خالية ونحن سبعة ممّن تناهَوا إليها".
ألحّ كوليا إلحاحًا شديدًا على أن يُريني آخر غنائمه: حصان برّيّ أسود أرداه قتيلًا قبل قليل بطلقة واحدة. كان الرّأس المقطوع يرقد في غرفة تبريد، والباقي بين يدي الطّبّاخ الذي يقطّعه لوجبة الغد؟
- "إلى أين تنوي الذّهاب؟"، سألني في المساء ونحن نجلس إلى الطّاولة المشتركة التي يتعشّى عليها عمّال المنجم.
- "إلى كروبوتكينو، أسفل قليلًا، باتّجاه الجنوب".
- "على القدمين؟".
- "على القدمين".
نبّهني الضّحك العامّ إلى شيء ما: ثمّة بعض المشاكل دون ريب...
- "لن تمرّ".
هذا التّحذير، كنتُ أسمعه بلا هوادة خلال كلّ رحلة من رحلاتي. النّاس يتصوّرون دائمًا أنّ الوصول إلى المرحلة المقبلة أصعب من الوصول إلى حيث هُم. لو أعلن أنّي سائر نحو منغوليا، فلن يعلّق أحد على ذلك لأنّ الغاية بالغة التّجريد، ولكن لو قلتُ إنّي أريد الوصول إلى أوباك فإنّ سكان أدري سيشكّكون في الأمر. المحلّي رعب أكثر من الكونيّ. الجحيم هي الجوار. لأنّ القريب نعرفه جيّدًا، فهو يُخيفنا أكثر من البعيد عنّا. لا أولي إذن اهتمامًا كبيرًا لتحذيراتهم، غير أنّ كوليو يلحّ.
- "من هنا إلى كروبوتكينو خمسة وثلاثون كيلومترًا من السّباخ، لن تقدر على ذلك".
- "السّباخ، شربت منها على ضفاف لينا".
- "لا وجه للمقارنة. هناك، هي أحواض ذات قُطر بعدّة كيلومترات ملآنة بالماء. حتّى شاحنات "كاماز" التي لها عشر عجلات لا تمرّ. دون زورق مطّاطيّ، لن تستطيع".
- "ولكنّي عبرت أذرعًا ميّتة سباحة".
- "لا علاقة. أنت تُقارن بين أذرع أودية وسباخ ذوبان. الوسيلة الوحيدة هي الـ "جي تي تي"، المُصفّحة البرمائيّة التي تستعمل للرّبط بين مراكز المنجم. لا خيار لك. يُمكنك أن تأتي معنا غدًا. هناك مصفّحتان ذاهبتان إلى كروبوتكينو. في السّاعة الرّابعة".
بقيتُ أفكّر، وأنا مُمدّد على فراش وفّروه لي في أحد الأكواخ. لستُ خائفًا من السّباخ. الخوف يأتي حين تفقد الرّوح ثقتها بالجسد، والحال أنّ لي ثقةً في جسدي، وعزيمة السّير قُدمًا لم تهجرني. أنا مثل شخصيّة من شخصيّات كيرواك: وظيفتي، وطبيعتي، وعلّة وجودي، وشعوري بالسّلام، تكمن في الحركة. من ناحية ثانية (وهذه يهمس لي بها صوت الشّيطان)، لا يُمكن أن نرفض جولة على مصفّحة ثقيلة من الحرب الباردة يقودها منقِّب روسيّ عن الذّهب، في السّمت، في سبخة سيبيريّة.
ثمّ إذا كانتِ المستنقعات، إنْ صحّ ما يقولون، غير سالكة، ألّا يكون من مصلحتي أن أركب معهم؟ ولكن، إن استسلمتُ لإغراء الـ"جي تي تي"، فإنّي أنكث العهد الذي قطعته على نفسي بالسّفر بوسائل عادلة... ومع ذلك، ما قيمة ثلاثين كيلومترًا تُقطع بوسيلة آليّة أمام خمسة أو ستّة آلاف كيلومتر من الجهد؟ وهذه الـ"جي تي تي"، الوحش الميكانيكيّ من المرحلة البريجنيفيّة، ألا يمكن أن أدرجها في صنف الوسائل العادلة؟ نمت في أوج القياس الأقرن.
غمرتنا موجة...
أحسنتَ صنيعًا إذ ركبت.
كانت المصفّحتان تتواريان أحيانًا تحت الماء. السّاعة الرّابعة والنّصف صباحًا. المصفّحتان تتقدّمان في الأوحال، تكسّران أرومات الأشجار المقطوعة، تحطِّمان صفحات الماء. كانت الحشرتان الفولاذيّتان الضّخمتان، المنذورتان للزّحف على أوروبا الغربيّة في السّتينيات، ثمّ تحوّلتا لاستعمالهما في نقل الغبار الذّهبيّ السّيبيريّ، تتقدّمان دون عجَل ولكن دون تردُّد، بقوّة لامبالاتهما الميكانيكيّة، وتدمِّران التّيغة. لا تنهبان الكيلومترات، بل تسحقانها. كنتُ مفتونًا بالخندق الذي تتركه الجنازير خلفهما، والذي تملؤه المياه فورًا غير آبهة بالوحل. كيف كان بوسعي أن آتي إلى تلك المنخفضات المنقعيّة التي نغوص فيها؟ اختفى ندمي في هدير الآلات. لوضع حدّ لساعات ذلك الغزو الجهنّميّ، عبرنا تحت الماء الرّافدَ العميق الذي يفصلنا عن قرية بيرفوز.
ما إن فارقتُ أصدقائي ركّاب مصفّحتي الإلدوريدو، حتّى عرّجتُ على متجرٍ للتزوُّد، لأنّ أمامي مائة كيلومتر من التّيغة قبل بلوغ كروبوتكينو. وإذ اشتمّ البقّال رائحة الغريب، سألني من أيّ بلد قدمت. بصفتي فرنسيًّا، سبّقني على صفّ طويل من البابوشكا، كنّ ينتظرن دورهنّ للاقتراب من منضدة البضائع. مرّة أُخرى تقوم جنسيّتي مقام تصريح بالمرور. لو يعرف أولئك الرّوس البسطاء أيّ احتقار يكنّه لهم شعبي المغرور بذاته، لعدّلوا تحمُّسهم للفرنسيّين. وأنا محرج نوعًا ما باحتلال موقع غيري، جعلت أتحدّث عن أسباب سفري. ألقيتُ طيلة عشر دقائق محاضرة صغرى عن الهاربين من الغولاغ السّيبيريّ أمام ربّات بيوت صفّقن لي، وكافأن جهدي بنقانق تزن كيلو ونصفًا، سوف يغذّيني حتّى كروبوتكينو.
الكيلومترات التي تلت خصّصتُها في تطهير جسدي من صخب المصفّحتين. مشيتُ طيلة يومين على حافة وادٍ يقود مجراه الأعلى إلى ممرّ سوف أتوغّل منه إلى فيتيم (أحد روافد لينا). عند منتصف النّهار، خلال استراحتي، أوقدتُ نارًا صغيرة، هي خير وسيلة لصدّ الدّببة، فضلًا عن كونها تُؤنسني. هي صديقةٌ عزيزة يمكن أن أبثقها من يديّ كلّ يوم، إلهة صغرى حيّة تدفّئ الرّوح والنّقانق واليدين. أحبّ قراءة الشّعر على ناري الهادئة. في سيبيريا، سوف أمنح نفسي هذه المتعة كلّ يوم تقريبًا.
عندما صادفت فاليري، في آخر العشيّ، لم أكن أدري أنّي كدت أقتل إنسانًا. كان جالسًا على حطبة مدوَّرة، تحت ظلّ جدران ضيعة بمحاذاة الثّنيّة، ينظّف بندقيّته. مدَّها إليّ وقال:
- "خذ، ليس لك إلّا أن تحاول إصابة الجفنة!".
وبما أنّنا في روسيا، وفي روسيا لا نهتمّ بعقلانيّة الأشياء، فقد قبلتُ دون نقاش. أمسكتُ البندقيّة وأنا لم أتخلَّص بعد من حقيبة الظّهْر، فشغّلتها، وأسندتها إلى كتفي، ووجّهتها نحو جفنة موضوعة فوق جذع على بعد خمسين مترًا، حبستُ أنفاسي وتهيّأت للضّغط على الزّرّ. في تلك اللّحظة برز شكل في خطّ التّصويب: رجل خرج من زاوية الضّيعة وهو يجري أمامي ويصيح:
- "هذا سلاحي! يا وغد! لا تلمسه!".
كان سكران. لو مرّت ثانية لمات، وأنهيت بقيّة مغامرتي في السّجن المركزيّ بكروبوتكينو بتهمة القتل على وجه الخطأ.
اسمه أوليغ، وهو صاحب البندقيّة. انتزعها من يديّ وهو يشبعني شتمًا. هبّ فاليري لنجدتي مترنّحًا. لم ألاحظ أنّه سكران، وتلك هي المشكلة دائمًا مع الذين يبقون جالسين. عشتُ ساعتها تجربة مؤلمة جدًّا: تجربة قضاء ثلاث دقائق أمام شجار بين سكرانَين روسيَّين يتنازعان بندقيّة مشحونة. تظاهرتُ بالانصراف، ولكنّ فاليري كان متنبّهًا:
- "لم تشرب شيئًا!".
مزّق الكحول الرّديء أمعائي. ستّون درجة ربّما. وهذا كافٍ للبوح:
- "يا صديقي الفرنسيّ الصّغير، في هذه المنطقة: اثنا عشر شهرًا شتاء، والباقي صيف. أنا كنت أفضل حالاً في السّجن. قضّيت فيه ثماني سنوات. في إيركوتسك. زمن الاتّحاد! ومنذ ذلك التّاريخ، إذا رأيت شرطيًّا أصرخ في وجهه: "يا مأبون!" على أمل أن يعيدوني هناك.
غادرتُ المديد فاليري، نموذج ذلك الجنس من السّكارى – قلبٌ طيّب وكبد عفنة – الذين يتمسّكون بالكحول بشكلٍ لا يمكنهم التخلّص منه في يوم ما. البقية وادٍ كئيب يمكن تسميته بـ"وادي الأسى". هنا، ينقّب الرّوس عن الذّهب منذ مائة وعشرين عامًا. الوادي كلّه مثقوب بفكوك الآلات. حماقة البشر: تقليب جبل للعثور على شذرات! لا أحبّ هذا الذّهب الذي يزين جيود النّساء ويُخرَّب لأجله جوف الأرض. ألا نستطيع تركه في أمان؟ لماذا نستخرجه من الطّمي ثمّ لا نلبث أن نطمره في ظلمة الصّناديق؟ أمُرّ ببعض قرىً مُعدمة يغدو رجالُها، حبًّا في الذّهب، مُصفرّي النّظرة. الحمّى كامنة في المنطقة. في المساء، توارى الوادي خلف غبار أثارته البلدوزرات. الجحيم هي حين تبدأ الأرض في التّشبّه بالقمر. الغريب أنّ رافيتش لا يصف تلك الوديان رغم أنّها كانت تستغلّ استغلالًا تامًّا إبّان فترة مروره.
مقتطف من كتاب "محور الذئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي