في كفر خورينتسكي، قضّيت مع ناتاشا أوقات غروب لطيفة قبل أن يفسدها زوجها، العائد من الصّيد، ثملًا تقريبًا، وفظًّا تمامًا، وهو الذي أرغمني أن أخضع حتى السّاعة الحادية عشرة مساء لسماع قصّة خدمته العسكريّة في غروزني وشاشليك الشّيشان الذين يزعم أنّه جعلهم غذاءه المعتاد.
في الكفر الكبير لـ أوليوكمنسك، حيث يجاور قبر ألكسندر نيفسكي تمثالَ لينين، أصيد السّمك برفقة صحافيّ من التّلفزيون المحلّيّ وبنيّاته الثّلاث، ناتاليا وآنّا وألا. وهنّ من جنس الأطفال الذين تضيئهم أشعّة الشّمس بسخاء أكثر من سواهم. ثلاثتهنّ يمكن أن يصلحن موديلًا لصانع ملصقات دعاية سوفييتيّة تشجّع على التّكاثر. في انتظار أن يعلق السّمك بالطّعم، روى لي الأب قائلًا:
- في العام الماضي، أدّى تقصّف الجليد إلى فيضانات. ارتفع منسوب نهر لينا حتّى وسط المدينة، ولمّا انسحبت المياه بقيت كتل ضخمة من الجليد في شوارع أوليوكمنسك. اصطدم صديق لي بإحداها وهو عائد إلى بيته، فتحطّمت سيّارته. ما زال يستعملها ولكنّه سمّاها "تيتانيك".
غادرت أوليوكمنسك فجرًا، بعد ليلة قضّيتها في بيت أليونا، مسؤولة الشّؤون الثّقافيّة في المدينة. لم أنم جيّدًا لأنّ الشّمس، التي أشرقت في الثّانية صباحًا، انحطّت على عينيّ. ثمّ هبط الضّباب على المدينة، فبدت الأكواخ منحرفة والأسيجة متموّجة مثل منفاخ أكورديون. لكأنّ البيوت تهتزّ من أثر موجة. الأرض الرّوسيّة كئيبة. وأنا أعبر البلاد، بلا رويّة، يُحبط البطء معنويّاتي!
لم يوقفني طويلًا وادي بريوك العريض الذي بلغته مساءً. وبينما كنت أتهيّأ لعبوره سباحةً، برز صيّاد من بين الأحراج.
- من أين أنت؟
- من فرنسا.
- أرافقك إلى الضّفّة الأُخرى.
ركبت بجانبه الزّورق المطّاطيّ، فاكتشفت أنّه سكران. أخفق في محاولة ركوبه الأولى، فوقع في الماء بثيابه، ثمّ نهض، وسحب الزّورق إلى وسط التّيّار، وسبح لعبور الوادي وهو يجرّ الزّورق بحبل، ولمّا استقام، حملني على ظهره، وأنزلني على اليابسة، ثمّ التفت وصاح فيّ:
- لا تنسني أبدًا!
ولم أكن أعرف حتّى اسم ذلك العبّار السّكران...
الكفر الموالي خال، بخلاف ما ذُكر لي: حقل من الأنقاض ما لبثت الأعشاب أن أزالته. لم أحمل معي أيّ زاد، لأنّي كنت أنوي التزوّد هنا.
عليّ إذن أن أقطع من الغد مرحلة بمسافة أربعين كيلومترًا دون أن آكل شيئًا منذ صبيحة الأمس، وفضل ذلك على الأقلّ أنّه يجعلني أتقمّص ظروف هارب جائع ولو لبضع ساعات. طوال يوم الصّوم ذاك، كنت أجرّ قدمَيّ عبر المستنقعات، وأنا أمضغ سيقان بصل برّيّ. اجتزت معبرين هامّين. في المساء، في نهاية نهار بلا أكل، قلّة الأفكار التي ما زالت تخامرني طارت نحو الهاربين الذين أشعر أنّي لا أشرّفهم. ماذا يكون الأمر لو كنت حقّا مطارَدًا من قبل المفوّضيّة الشّعبيّة للشّؤون الدّاخليّة، أعاني من سوء التّغذية، مُعدَمًا من كلّ شيء؟
في قرية دابان حيث وصلت، والشّمس، مثل طفل نزق، ترفض المغيب، ازدردت ما نفحني إيّاه عمدة القرية الشّابّ: نقانق، بيرة، بطاطا وقشدة طازجة دعاني إلى أن أغمس فيها العنب البرّيّ. لشكره، ساعدته في صبيحة الغد على زرع البطاطا: كذلك أسدّد ما يُعطى إليّ وأسعى إلى الطّريقة نفسها كلّما دعيت. لم أعد طفيليًّا كما كنت زمن رحلاتي الأُولى مشيًا أو راكبًا درّاجة. لم يعد بمقدوري أن أسرق النّاس باسم ضيافة مزعومة يلتزم بها ابن البلد نحو مسافر، بدعوى أنّه يشرّفه بزيارته.
شددت الطّريق في بداية ما بعد الظّهر عقب وجبة أخيرة – نقانق، قشدة وبيرة شقراء – لدى العمدة بصحبة صيّاد موشوم السّاعد (علامة على مروره بالسّجن) برأس ميّت يلتقي في محجريه سيفا ملحمة بحريّة.
- كيف الأمور ما بعد الشّيوعيّة؟ سألت.
- حسنةٌ لمن يريد العمل، أجاب العمدة الذي أسرّ إليّ هذا الصّباح بأنّه يحلم بأن يصبح حاكم ياقوتيا.
- غير صحيح! الدّولة تسرقنا وكلّ ضرائبنا تذهب هنا، قال الصّيّاد وهو يربّت على بطن العمدة.
لزمني يومان كاملان بما يحويانه من سباخ وعواصف غير طبيعيّة، وأخاديد، ومعابر أجتازها سباحة ونبت أحراج أخضر ليّن لبلوغ قرية ديلجي. أمشي سعيدًا في وحدتي. وأنا في تواصُل شعوريّ مع ذلك الجنس من الرّحّالة الرّومانسيّين الأوروبّيّين في نهاية القرن التّاسع عشر، الذين يمثّلهم كنولب وغولموند، بطلا هيسه، بشكل رائع. أشعر أنّي متشرّد العالم الغربيّ.
لا دبّ ولا بعوض بعدُ بفضل النّداوة النّسبيّة التي تؤخّر هذا العام فقس اليرقات. ولكنّي أخرجت أيّلين رائعين من مكمنهما. تبعت آثارهما على الحمأ وأنا أفكّر في الأيّل السّيتي الموشوم على كتفي. هو أيّل في حال سباق يزين إبزيمًا من الذّهب عُثر عليه في حوض توسّع السّيتيّين الملكيّين، في أوكرانيا الجنوبيّة. أتعلّق بهذا الوشم لعدّة أسباب:
1- حنوّ على الشّعب السّيتيّ الذي يحسن أكثر من سواه السّيطرة على الفضاء.
2- انبهار بتقنية الصّاغة لدى أولئك الرّحّل، ومهارتهم في الأشياء الدّقيقة، التي طوّروها أمام ضرورة الفرار عند أوّل نذير، والقدرة على جمع كلّ تراثهم الفنّي وتعبيرهم عن عبقريّتهم في صندوق واحد من الجلد.
3- إعجاب بالأيّل في حدّ ذاته، هذا الحيوان العاشب، البريء من كلّ جرم، ولكن ليس له أمام الموت دعة البقر، بل إنّه يعرف كيف يستخدم عند اللّزوم قرونه بعنف.
4- اهتمام بذكاء ذلك الحيوان الذي وصفه ميشيل تورنيي بكونه "مبنيًّا من الرّأس"، والذي يدين لسرعته بتفكيره (فالذّهن لدى الأيّل هو الذي يفسح له الطّريق).
5- انجذاب إلى الطّريقة التي نمنم بها السّيتيّون ألواح الأيّل في زخارف لولبيّة ذهبيّة شبيهة ببعض أقراط المحبوب الزّعراء.
6- أخيرًا رغبة في أن يكون بجانبي على الدّوام حضور صورة، عضد أيمن لتأهيل ساعات الوحدة، مثل أيقونة حارسة في ليل الكنيسة.
عمدة ديلجي امرأة. زرت المدرسة التي اقترحت عليّ قضاء الليل فيها. جدار إحدى القاعات مزدان بحشد من بورتريهات مستكشفين. من اليسار إلى اليمين: ماجلان، بيرنغ، سكوت، أدمونسن، برجيفالسكي، تور هايردال! تحت حمايتهم قضّيت ليلتي. عند الفجر، زارتني مديرة المدرسة. سماور. شاي. بسكويت. ثمّ قدّمت يادفيغا بتروفنا مارجيليتا، مبعدة ليتوانيّة وقفت خلف مِقرأ. كانت تدير عينين واسعتين ظننتهما ملآنتين رعبًا إلى أن فهمت أنّهما ملآنتان جنونًا. روت ما تتذكّره.
- جاؤوا يوقفوننا في 16 حزيران/ يونيو 1941، في عزّ اللّيل. كان عمري سبعة عشر عامًا. نزلت إلى القاعة المشتركة للمزرعة. وجدت أبي، عاريًا، محاطًا بجنود يعنّفونه وهو يصرخ: "أين زوجتي؟"، أمرونا بأن نلبس فساتيننا، ثمّ وضعونا في شاحنة بينما كانت أمّي تنشج: "من سيتعهّد البقرات؟"، بعدها أمكن لي الاطّلاع على قرار إدانتي. تمّ التأكيد فيه على أنّ إيقافي كان نتيجة قيامي بـأنشطة سرّيّة. ولكن الأنشطة السّرّيّة الوحيدة التي كنت أقوم بها هي رصف البطاطا في قَبْونا! (ضحكت السّيّدات عندئذ)، حُكم عليّ بعشرين سنة... ثمّ تمّ إبعادي، ومنذ ذلك التّاريخ وأنا هنا. لم أعد قطّ إلى ليتوانيا (تعُدّ)... يعني منذ واحد وستّين عامًا.
- والهرب، يادفيغا بتروفنا؟
- ذلك أنّه... لكي نهرب، ينبغي أن يكون لنا مكان نذهب إليه.
تمّ تقديمي بعد ذلك إلى مدير منشر، يهوديّ أوكرانيّ، نُفي إلى ياقوتيا وهو لا يزال طفلًا، مع أبويه، بعد الحرب. سمين، أشقر، درقيّ ربّما، وأعرج. شرح لي، دون أن أفهمه جيّدًا بسبب لكنته، أنّ المصنع كان يعمل بفضل جهود المبعَدين وأنّ أبناءهم واصلوا مزاولة الاحتطاب بعد تحوّل المنشر إلى شركة حرّة. في الغابة التي قادني إليها على متن فازْ، التحقنا بفرقة حطّابين. الوقت ساعة الاستراحة. وهم متحلّقون حول نار يطبخ عليها إبريق شاي، ينظرون إلى ألسنة اللّهب. حمرة اللّهب وزرقة العيون. بعضهم لهم وجوه شيوخ روسٍ سولجينتسينيّين حسان. كلّهم لهم وشوم السّجن. في الصّيف كما في الشّتاء، يقطعون التّيغة، ويفتحون منافذ في الجدار النّباتيّ الذي يحيط بنا. الآن هم يستصلحون منحدرًا وعرًا: وهو عمل خطير، لأنّ الجذوع المتدحرجة تطيح بكلّ شيء عند مرورها، رجالًا أم آلات. ثمّ يرسَل الحطب المقطوع إلى أوليومنسك أو ياكوتسوك عبر نهر لينا. من بين أولئك الحطّابين يوجد رجال زيك قدامى. طوال حياتهم لم يقطعوا الحطب برضاهم...
فجأة، فزّوا قائمين في حركة واحدة. خطرت ببالهم فكرة رائعة! سيُطلعون الفرنسيّ على مخبأ الدّبّ! هو قريب جدًّا! دافايْ! العرين الذي اكتشفوه هذا الصّباح يبلغ ارتفاعه مترًا وعمقه ثلاثة أمتار. وهو محفور عند قدم سندرة تتدلّى جذورها في الفراغ. هناك ينام الدّبّ حتّى شهر نيسان/ إبريل. وأنا عائد إلى نهر لينا، مررت أمام مرقب معلّق في الشّجر. تسلّقته كي أتأمّل المشهد. ثمّة صيّاد نسي كتابه الذي طفح بماء المطر: جميلة لجنكيز إيتماتوف. الحيوانات يمكن أن تمرّ بسلام ما دام الصّيادون غائصين في روايات حبّ رائعة.
بقي لي يومان من المشي قبل الوصول إلى ماشا. سرت في تفجّر حياة. أناوب في مشيي بين محاذاة خطّ التّلغراف، أو في السّباخ ونبت الأحراج أو على الضّفّة. كان نهر لينا، المتهلّل، يلمع، والرّيح تصنع تجاعيد عارضة ينعكس عليها الضّوء. وخيط من البهجة يرفرف في السّماء. والهواء منعش. صرامة الفضاء الخارجيّ الذي لا تُحدّ رحابه. وصحّة متينة في الدّاخل. أشتّت في فرجة غابة قطيع خيول برّيّة تغتنم غياب الإنسان كي تعيش في سعادة. تلك الأراضي المنسيّة منتفخة بنسغ حيويّ. التّيغة تطنّ مثل قلب محكوم عليه في يومه الأخير: الحيوانات تعرف أنّ عمرها قصير في أشهر التّناسل. لذلك لا تضيّع ساعة. زمن الصّيف القطبيّ إيروسيّ... "لا أرغب في الموت بعد" تقول الطّبيعة حال نهوضها. كلّ واحد ينشغل بالعاجل: يتناسل، يتكاثر، يتسافد بأسرع وقت قبل أن يقرع صقيع الشّتاء غلمته.
لتزجية الوقت، لخّصت كلّ أنواع النّصائح التي أوصيت باتّباعها إذا ما اعترضني دبّ:
التّحوّل إلى جذع شجرة، صامت مثل الجذل.
عدم التّفكير فيه.
التّحدّث إليه.
عدم قول أيّ شيء.
تجنّب النّظر إليه.
النّظر إليه دون خوف لأنّه يهاجم الخائفين.
ضرب شجرة بعصا.
عدم إحداث أيّ صوت.
وآخرها رأي أحد حطّابي ديلجي: "حاول ألّا تصادف أيّ دبّ".
ماشا أخيرًا. لمحت البلدة عن بعد، على الضّفّة الأخرى، وقد استلزم الوصول إليها ثلاث ساعات في سبخة. رافيتش كتب يقول إنّه عبر النّهر مشيًا، على الجليد. أمّا أنا، الذي ذهب متأخّرًا عن رزنامة الفارّين (كلّهم يفرّون قبل ذوبان الثّلوج)، فقد دعوت حوريّات الماء أن يقبل أحد سكّان قرية بُنيت قبالة ماشا نقلي على مركب إلى الضّفّة الأخرى.
لم أنتظر طويلًا. شرطيّ روسيّ شابّ، جينا، مصرور في زيّه الرّسميّ، كان يتأهّب لنقل ابنة إحدى صديقاته على متن زورق إلى الضّفّة المقابلة. انضممت إليهما. خلال العبور القصير، أتأمّل خيط الفولاذ في وجه جينا وعينيه الزّرقاوين المركّزتين على القيادة، وفي المحور نفسه أرى ارتسام ملامح الفتاة، ياقوتيّة حسناء في السّادسة عشرة تُدعى ليوبوف (بمعنى حبّ في اللّغة الرّوسيّة)، ذات نظرة تمدّها هي أيضًا إلى المدى البعيد، وفهمت بغتة في لمعة ذهن، المشروع السّوفييتيّ: ألف عرق، أرض، هدف واحد، وكلّ القوى الموحّدة أخويًّا، وكلّ الطّاقات المنضمّة معًا، وكلّ جينا وكل ليوبوف - روس شقر وآسيويّات مشيقات - تجمع لأجل البناء.
* مقتطف من كتاب "محور الذئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي