كُنّا أطفالاً، مَن في جيلي يمكن أن ينتسب عمرياً إلى جيل الطفل محمّد الدرّة. أقول الطفل، لأنّه بقي هناك في الطفولة، لأنّه قُتل، لأنّهم قتلوه وهو ملتجئ إلى أبيه. أقول طفل، لأنّ مقتله، كطفل منَّا، زرع، بالنسبة إلى جيلي، إلى جيل محمّد الدرّة، زرع، شيئاً في وجداننا يشبه انتزاع الطفولة.
كُنّا أطفالاً، وأقصد كُنّا شهوداً لم يدركوا بعد طبيعة العنف الذي يرونه على الشاشة، وهُم يعيشون في الأرياف البعيدة. وأوّل ما تعود ذاكرتي إلى الوحشية، تعود إلى حدث لم يأت من العائلة، لم يأت من البيئة، إنّما أوّل مَشاهد الوحشية التي أتذكّرها، جاءت من الشاشة، من مجزرة قانا، لأبٍ أذكره اللحظة هذه من دون الاستعانة بغوغل، يحمل طفله بين يديه وقد أخرجه ميتاً من تحت الأنقاض. الأب ينظر إلى الأعلى قليلاً يناجي إلهاً، فيما رأس الطفل مشوَّه أو محترق.
ارتبطت الوحشية في ذاكرتنا باعتبارها حرباً على الطفولة
كُنّا أطفالاً، ولم نعِ بعدُ مفردة الأنقاض، مفردة المجزرة. لكن الوحشية ارتبطت في ذاكرتنا ببتر الطفولة، ارتبطت باعتبارها حرباً على الطفولة، وبتهديد الأطفال. ارتبطت بسرقة الكبار حياة الأطفال وتحطيم ألعابهم وبيوتهم، وحرمان أهلهم منهم. وأنا في عمر العاشرة تقريباً، كنتُ أرى في المجازر مقتلَ الأطفال، كنت أرى حرمانَ الأب من وجود ابنه. لكن اليوم، وأنا في الخامسة والثلاثين تقريباً، أكثر ما يهزّني فيما أرى الوحشية عينها؛ هو حرمانُ الابن من أبيه. إنْ كنتُ أفكّر عندما كنتُ طفلاً: كيف لأبٍ أن يحتمل موت طفله، فالآن، وباعتبار أنّي صرتُ أباً، أصبحتُ أفكّر كيف لطفل أن يعيش من غير أب. عدا عن أنّه، عند الحديث عن الطفل الفلسطيني، فهو طفل تحت القصف، وفي الحصار، وهو طفل من أطفال عديدين، وقد أمسوا بلا آباء.
كُنّا أطفالاً، ولم نكن نعي أنّ هؤلاء الكبار الذين ينهبون أرواح أطفالٍ مثلنا، ليسوا مجرَّد كبار، وإنّما هُم كبار محتلّون، لا ينتمون إلى فلسطين، بل هُم كبار معادون لما هو فلسطيني. حتَّى اقتلاع الأشجار الذي كنّا نراه على الشاشة، لم يكن إلا اقتلاعاً لأشجار فلسطينية. أشجار تُقتلع بسبب انتمائها إلى فلسطين، وأطفال يُقتلون لكونهم يحملون الدم الفلسطيني. بدا أنّ هؤلاء الكبار الذين ينهبون حياة أطفالٍ مثلنا يعادون كلّ ما هو فلسطيني، حتّى السياج الحديدي، حتّى السور الإسمنتي، وحتى الطائرة؛ لم تكن إلّا أدوات لفرض الحصار على الحياة الفلسطينية، وعلى الهواء الفلسطيني.
كنّا أطفالاً، ولم نكن نعي أنّنا شهود لازمون لأزمنة قادمة. لم نكن نعي أنّ ذاكرتنا التي يقبع فيها الطفل محمّد الدرّة الذي كان يمكن أن يكون أيّاً منّا، يصرخ الآن من موقع قديم في ذاكرتنا، موقع ما يجعله قديماً وأثيريّاً، أنّ الطفل بقي هناك. بقي أسيراً لما رأى، لا أقصد الطفل محمّد الدرَّة، بل أقصد نفسي، أقصد أبناء جيلي. الطفلُ الذي قد يكون جميعنا؛ بقي أسيراً لمشهد القتل، لمشهد اللجوء إلى الأب، ولمشهد المناجاة التي لم يتوقّف الفلسطينيون عن توجهيها إلى إلهٍ ما.
أيكون إله الحرب؟
أيكون إله الطفولة؟
أيكون إله الأشجار والبيوت والخنادق؟
كُنّا أطفالاً، وخرجنا من طفولتنا برؤيتنا مقتل أطفالٍ مثلنا، ونحن نعي أنّنا نعيش في عالمٍ يكره الطفولة، حيث تُقتلع الأشجار، وتُهدّ البيوت. في الأرياف البعيدة، حملنا العلم الفلسطيني، خرجنا إلى الشارع واجتمعنا في ساحة القرية؛ هتفنا لفلسطين، وحملنا جثماناً كرتونيّاً هو جثمان محمّد الدرّة، ثمّ شيّعنا الجثمان إلى الغابة، وكنّا بذلك، ومن غير أن نعي، نشيّع طفولتنا التي سرقها الصهاينة.
* روائي من سورية