من بين ألقاب كثيرة أُطلقت على المؤلّف الموسيقي المصري محمد عبد الوهاب (وُلد بين عامي 1898 و1902 وتوفّي عام 1991)، بقي لقب "موسيقار الأجيال" الأكثر تداولاً إلى أيامنا، وقد مرّت اليوم على رحيله ثلاثة عقود. لكأنّ الجمهور الواسع بإقراره هذا اللقب قد التقط من بين جميع ملامح شخصيّته الإبداعية والإنسانية ملمحاً دون غيره، ذلك الذي يُميّز صاحب لحن "النهر الخالد" عن بقيّة المشهد الموسيقي، وهو قدرته العجيبة على إعادة تركيب عناصر فنّه حسب الذائقة المتجدّدة لكلّ عصر، فكان خلال عقود طويلة عابراً للأساليب والأشكال والتلوينات، يمكنه أن يذهب إلى مناطق بعيدة عن قواعده الأولى دون أن يتنازل عن نفسه، ومن ثمّ تصبّ كل تلك التنويعات في بحر واحد.
يمكن أن نرى هذا التنويع الموسيقي حين نقارن بين الأغاني التي أدّاها بصوته بين العقود. ستُظهره بداياته في العشرينيات من القرن الماضي كفنان ميّال إلى حفظ قواعد الفنّ الشرقي بإبقائها بعيدة عن شوائب المؤثّرات الموسيقية الوافدة. كان عبد الوهاب الشابّ ممجِّداً في خياراته لنزعة التطريب والتزيين الصوتي. كذلك كان في "كلّنا نحبّ القمر"، و"أحبّ أشوفك كل يوم"، و"إن كنتِ تفتكري ولّا تنسي"، و"عشقت روحك"، و"على غصون البان"، و"يا جارة الوادي".
أمّا في العقد الموالي، فسينتقل عبد الوهاب - دون مقدّمات - إلى نغم أكثر خفّة يستند إلى آلات غير تراثية، ويبدأ في تأسيس "الأغنية" كقالب موسيقي مضبوط يقوم على نصوص (من العامية) ذات هيكلة مختلفة عن القوالب الموروثة من قصائد وأدوار، وعلى نغم يمكن تذويبه بسرعة في أذن مستمع لم يعد يجد الوقت للمطوّلات التطريبية. لقد كان عبد الوهاب يحدس بذلك انتقالَ مركز ثقل التلقّي من القصور والفيلّات الباشوية إلى طبقة الموظّفين والأفندية، وهي طبقة أخذت في الاتّساع مع تطوّر الجهاز الإداري المصري ودخول المجتمع مرحلة تحوّلات قِيَمية وسلوكية كانت تتجلّى مباشرة في منظومة استهلاك الفنّ.
لعبد الوهاب أذن موسيقية مرهفة إلى حاجات السلطة والناس
في تلك الثلاثينيات ظهرت السينما في مصر. وما كان أسهل على عبد الوهاب أن يقفز بفنّه إلى العربة الأمامية من القطار، فقد جمع بين الوسامة الأرستقراطية (رغم أصوله غير الأرستقراطية) وعذوبة الصوت واكتمال الصنعة التلحينية، بحيث إنه إذا ذهب إلى "ما يطلبه المستمعون" لم يكن يعني ذلك بأنه يفرّط في المقوّمات الجمالية لفنّه.
لم يعوّل عبد الوهاب وقتها على أضواء النجومية كي تحجب الضعيف في ألحانه. بل عمل على ألّا يكون هناك نقاط ضعف حتّى ولو أتاحت الصورة السينمائية بعض الترقيعات. وسيفسّر ذلك حفاظ أغانيه على بريقها لعقود حين تُسمع خارج سياق الأفلام التي أُنجزت ضمنها. لقد كانت بالنسبة للمخرجين مجرّد مشهد في الشريط، وكانت لدى عبد الوهاب أعمالاً موسيقية ينبغي أن تلبيّ كل اشترطات الإتقان الفنّي، ومن أبرز هذه الأغاني: "يا دنيا يا غرامي"، و"أحبّ عيشة الحرية"، و"سهرت منه الليالي"، و"يا ورد مين يشتريك"، وإجري إجري"، و"إيه انكتبلي يا روحي معاك".
وفي نفس هذه الفترة يمكن أن نلاحظ إصراره على ألّا تكون هذه النقلة، من الطرب الكلاسيكي إلى الأغنية، مقتصرةً على نصوص من العامية، فانتقى قصائد من الفصحى تتوفّر فيها جميع شروط الأغنية مثل "عندما يأتي المساء" من شعر محمود أبو الوفا، و"جفنه علم الغَزَل"، و"الصِّبا والجمال"، و"الهوى والشباب" وهي قصائد للشاعر اللبناني بشارة الخوري، وقد بدا أن عبد الوهاب قد وجد فيه ما يبتغيه من طراوة في التراكيب وبساطة في اصطفاء المفردات، وهي عناصر لم يعد يجدها في المدوّنة الأولى التي كان ينهل منها، أي شعر أحمد شوقي، وإن اجتهد مع الكثير من نصوصه مثل "تلفتت ظبية الوادي" و"علّموه كيف يجفو فجفا"، وإلى ذلك، اشتغل خلال هذه المرحلة على قصائد شوقي في العامية المصرية وقد كان نصيبها أوفر من قصائد الفصحى في إرضاء أذواق المستمعين مثل "في الليل لما خلي" و"النيل نجاشي" و"بلبل حيران".
أواخر الثلاثينيات، استند عبد الوهاب إلى نصوص أحمد شوقي مرّةً أخرى حين خاض مغامرة الأوبريت. قدّم مع أسمهان "مجنون ليلى" ليبدو كوريث شرعيّ لمشروع المسرح الغنائي المصري الذي آمن به سيّد درويش، ولكنّ عبد الوهاب بقي عند هذه التجربة اليتيمة على الرغم من نجاحه في توظيف اللحن بشكل مثالي في البناء الدرامي للحكاية. كان وقتها كمن رفّع اشتراطات إنجاز فن الأوبريت عربياً ثم انسحب من المشروع بعد أن تركه ممتنعاً على غيره.
أعاد تركيب عناصر فنّه حسب الذائقة المتجدّدة لكل عصر
من الواضح لاحقاً أن عبد الوهاب قد اختار مواصلة "الاستثمار" في الأغنية. ازدهرت في الأربعينيات سوق الفنون وتحوّل صاحب موسيقى "عزيزة" إلى مؤسّسة حيّة، فكان من الطبيعي أن يوفّر حوله كلّ ما يحتاجه لصناعته. في هذه السنوات، وجد عبد الوهاب في الشاعر الغنائي حسين السيّد المادة النصية لأفق التنويع الذي يصبو إليه. كان يعرف أن موقعه السينمائي سيبدأ في الاهتزاز بحكم عامل السنّ وعليه أن يطوّر مشروعه الأساسي في الأغنية والتأليف الموسيقي.
لعبت أغنية عبد الوهاب في هذه الفترة أدواراً اجتماعية وسياسية خطيرة. كان الفنّان المصري منصتاً جيّداً للحاجات النفسية للمجتمع وللسلطة، فانبرى يوظّف فنّه لتلبية هذه الحاجات. أمّا حاجات الدولة، فهي بارزة في مجموعة الألحان الوطنية أو في عمله الفريد "الفنّ"، وقد ضَمّنَه مدحاً صريحاً للملك فاروق كراعٍ للفنّانين. وأمّا اجتماعياً، فقد أفسح عبد الوهاب مساحة كبيرة للحلم والهيام في قماشة ألحانه، وأدخل روحاً من المرح الدافئ، كما استدعى الكلمات الرطبة الحيّة وكأنه يصنع لأهل زمنه "ماكينة للسعادة". هناك خيط ناظم يعبر مجموعة واسعة من أغاني هذه الفترة، مثل "أنا اللي طول عمري ما حبّيت"، و"أحبّه مهما أشوف منه"، و"بلاش تبوسني"، و"يا مسافر وحدك"، و"انس الدنيا".
لكنّ مفارقة الأربعينيات أنّ استقرار عبد الوهاب على النغمة التي باتت تسحر المستمعين صاحَبَها اشتغالُه على مشاريع بأبعاد موسيقية وفكرية أوسع. كان من الواضح أن لديه رغبة في الجمع بين الحفاظ على الأغنية القصيرة كجوادٍ رابح لا يمكن تغييره، وبين المرور إلى مرحلة فنية أكثر عمقاً وأصالة.
رغم أنه حافظ على نفس الشاعر، حسين السيد، سنجد نقلة مضمونية وموسيقية حين نستمع إلى "الحبيب المجهول" أو "عاشق الروح". أمّا إذا نهل عبد الوهاب من الشعر، فهو يتصدّى لتلحين قصائد سبق وأن أطربت الجمهور، كنصوصٍ مثل "لست أدري" لإيليا أبو ماضي، و"الكرنك" لـ أحمد فتحي، و"كليوباترا" و"الجندول" لـ علي محمود طه.
صاحَبَ هذا التأقلم الفني بين العصور (وهو محمودٌ) تأقلمٌ سياسي كثيراً ما أطفأ البريق الإبداعي لعبد الوهاب. وكما حدث انقلاب الضبّاط الأحرار بشكل مفاجئ، انقلب عبد الوهاب من "مغني الملوك والأمراء" إلى مناصر فنّي للثورة دون أن نشعر بأنه قطع مسافة بين هذا الموقع وذاك. هل تنبع مثل هذه الخيارات عن وعي؟ أم أنّه كان يحمي إمبراطوريةً إبداعية لا تريد أن تلتفت إلى المعارك خلف النافذة؟
وجد عبد الوهاب تصلّباً من قيادات ثورة 52 حيث اعتُبر ــ والأمر بديهيّ ــ أحد رموز "العهد الملكيّ البائد". لكن هل يملك الفنان غير فنّه لحيازة المربّع الذي يحبّ أن يقف فيه؟ في سنوات التهميش، كرّس وقته لروائع جديدة أبرزها "النهر الخالد"، و"بفكّر في اللّي ناسيني" و"ستّ الحبايب". كما لحّن بعض الأغاني التي تُغازل السلطة الجديد، لكن الآذان تصاممت عنه.
في احتفالات "عيد الثورة"، عام 1959، قدّم بصوته أغنية "يا نسمة الحرية"، وسرعان ما تحوّلت إلى أيقونة موسيقية التقطها النظام وحوّلها إلى رمز من رموزه. مرّةً أخرى، اتّضح أن لعبد الوهاب أذناً موسيقية مرهفةً إلى حاجات السلطة والناس. وسيشرف لاحقاً على إنجاز نشيد "الوطن الأكبر" مع صعود الخطاب الوحدوي إلى المنصة.
بذلك، فرض عبد الوهاب لنفسه حظوة لدى نظام عبد الناصر، فكان أشبه بميّت انتفض بين ليلة وضحاها "فزالَ (عنه) القَبرُ وَالكَفَنُ"، بحسب عبارة المتنبّي. وأكثر من ذلك، اندمجَ ضمن الجيل الصاعد مع الثورة، جيل عبد الحليم حافظ، وتموقع على رأس الموجة التجديدية، فقدّم ألحاناً مثل "أهواك"، و"أنا لك على طول"، و"قوي حاجة"، و"يا خلي القلب"، بدت وكأنّها خرجت من عود ملحّنٍ شاب؛ محمد الموجي أو كمال الطويل.
في تلك السنوات برهنَ عبد الوهاب أنه لا يتأقلم بين عصر وآخر فحسب، بل حتّى بين أداء وآخر، وظّف كل الحناجر من الستينيات إلى الثمانينيات في تشييد مكتبة موسيقية لا يجمع بين مفرداتها غير اسمه، من "لولا الملامة" لوردة إلى "أسألك الرحيل" لـ نجاة الصغيرة، إضافة إلى الأغاني التي أدّاها بنفسه.
وكانت اللحظة الأكثر ألقاً فنياً، والأكثر تطلّباً، والأكثر وقوعاً تحت دوائر الضوء أيضاً، ما سمّي بـ"لقاء السحاب"، حيث قدّم ألحاناً لأم كلثوم بدءاً من 1964 في "إنت عمري"، وثم تلتها روائع "أغداً ألقاك"، و"فكّروني"، و"ليلة حب"، و"دارت الأيام"، و"أمل حياتي"، و"هذه ليلتي"، وفيها أظهر عناية خاصة بالمقدّمات الموسيقية وكأنه كان يخترع لنفسه أفق إبداع موسيقي جديد.
كلما توقّع المتابعون أن يأخذ محمد عبد الوهاب ــ في شيخوخته ــ مسافةً من المشهد الفنّي، كان يظهر بعمل جديد له فرادته وطرافته. هكذا استقبل الجمهور لحنه "في عينيك عنواني" بصوت عفاف راضي، وفُتنوا حين أطلق من أحد أدراجه أغنية "من غير ليه" (1989).
إذا كان تأثير عبد الوهاب في الوسط الفني ــ والحياة العامة بشكل أوسع ــ عائداً إلى هذا الحضور الإبداعي المتواصل وإصراره على الاحتفاظ بمكانته المرجعية بتكتيكاته المتنوّعة بين العصور، فإننا نتوقّع خفوت بريقه بعد سنوات قليلة من رحيله. غير أن عبد الوهاب قد تواصل في تجارب شريحة واسعة من الفنانين ولا تزال رؤيته للموسيقى، وضمنها الخيارات الآلاتية مثلاً، تمثّل المنهج الذي لا تزال الموسيقى العربية سائرة عليه، خصوصاً ضمن ما ترعاه الدول، من المغرب إلى الخليج.
ومثل فنانين كثيرين، أتاح الإنترنت حياةً جديدة له، فجرى تجميع أرشيفه في مدوّنات وقنوات "يوتيوب" ومنتديات لعشّاقه. وبذلك لم يكتفِ عبد الوهاب بكونه عابراً للمراحل التاريخية والأشكال الموسيقية، بل هو عابر أيضاً للمحامل التقنيّة، من الأسطوانة في بداياته إلى منصّات الموسيقى والستريمينغ في يومنا هذا، في حين أنه عاصر الزمن الذهبي لأشرطة الكاسيت. هكذا، لا يزال عبد الوهاب عارفاً بسُبُل التواصل مع الأجيال.
يُفترض أن يُغري ثراء رحلة عبد الوهاب في الفن وفي الحياة كتّابَ السيَر أو مخرجي الأفلام، لكنّنا حين نفحص ما أُنتج حوله لن نجد الكثير، ولن يسدّ المتوفّرُ حاجة المتطلع إلى صورة شاملة تجمع شتات منجزه الفنّي وتربطه بسياقات الأزمنة التي عاصرها، وخصوصاً بمنطقه في إدارة مسيرته الفنية.
ها نحن نقف مع محمد عبد الوهاب على أحد وجوه تعطّل الثقافة العربية حين نجد أنه ــ رغم منجزه الإبداعي الضخم والثراء الدرامي لحياته ــ لم يخلق شبكةً من المؤلَّفات حوله. يقال إن كلّ عظيم لا تستقرّ روحُه إلّا في كتاب سيرة يوضَع بعد رحيله، وبناءً على هذا المجاز، لا تزال أرواحٌ كثيرة هائمةً تبحث عن قرار في فضاء الثقافة العربية.