في صيف كلّ عام، ينشغل الوسط الثقافي بطرح المرشّحين المحتملين والمفتعلين لـ "جائزة نوبل للآداب"، وهي تكون مناسبة أيضاً للعلاقات العامة بين بعض الأوساط التي تستثمر أو تستفيد من هذه المناسبات.
ولكن الأمر اختلف في ألبانيا هذا العام مع المرشّح المزمن للجائزة إسماعيل كادرايه؛ حيث جاءت المحاولة هذه المرّة على شكل كتابٍ ألّفه كبير المحقّقين في النظام الشمولي في ألبانيا (1944 - 1990) كامل لامه بعنوان "هزّات العهد - الأدب والفنُّ خلال العهد الديكتاتوري: ملاحقة إسماعيل كاداريه"، ونُشرت حلقات منه في جريدة "بانوراما" الألبانية واسعة الانتشار طيلة شهر آب/ أغسطس المنصرم، ما أدى إلى ردّة فعل قوية لم تكن لصالح المؤلّف أو لصالح كاداريه.
ومع أنه غدا من المعروف أن العقبة التي تحول دون فوز كاداريه بجائزة نوبل تتمثّل في علاقته أو في خدمته للنظام الشمولي، وسكوته عمّا حلّ بعشرات الكتّاب من قتلٍ وسجنٍ ونفيٍ ومنعٍ عن الكتابة خلال الحكم الشمولي، إلّا أنّ المفاجأة جاءت في 2015 بفوزه بـ "جائزة أورشليم" الصهيونية التي يروِّج لها بعضهم باعتبارها بوّابة لجائزة نوبل؛ فقد جاء قرار لجنة التحكيم لتبرير فوزه بأنّ مؤلفاته "تقدّم تعبيراً عن القمع الذي مارسه النظام الشمولي أثناء هيمنته على ألبانيا"، بينما كان كاداريه، وحتى اللحظات ما قبل الأخيرة، أحد نجوم النظام الشمولي في ألبانيا، كما سيتّضح لاحقاً.
يعكس الكتاب محاولة إعادة اعتبار لرموز النظام الشمولي
المهم أن كمال لامه كبير المحقّقين في النظام الشمولي (1982 - 1990)، الذي أصبح الآن يُدعى "كبير المجرمين"، أراد من كتابه أن يُعيد الاعتبار لنفسه وكذلك لإسماعيل كاداريه، وذلك من خلال سردية تقول إنّ النظام الشمولي كان يضع كاداريه تحت المراقبة الدائمة، وأنه بعد إعدام الرجل الثاني في النظام (محمد شيخو) عام 1982، تقرّر اعتقال كاداريه و"تحضير التابوت له"، وصدر الأمر بالفعل من قبل رأس النظام (أنور خوجا)، إلّا أنّ المؤلّف تدخّل وتمكّن من إقناع خوجا بإلغاء هذا الأمر!
وربما لو كان الأمر يتعلّق برواية أدبية أو بسردية شخصية في بلد غير ألبانيا لأمكن تقبُّل الأمر، ولكن في بلد كألبانيا لا يزال الضحايا فيه على قيد الحياة ويشهدون كلّ يوم على ما جرى من عجائب وغرائب خلال سنوات 1944-1990، يُصبح من الصعب تقبُّل "مذكّرات" كهذه لا تتضمّن وثيقة واحدة تُثبت ما قاله المؤلّف عن "الأمر الذي أصدره أنور خوجا لاعتقال إسماعيل كاداريه"، أو عن حديثه الودّي مع رأس النظام (أنور خوجا) وإقناعه بإلغاء الأمر.
ومن هنا، لم يكن من المستغرب أن تستعر حملة قوية ضد المؤلّف وضدّ كاداريه، مع التصريح بأنّ كتاباً كهذا أُنجز بعلمه ولمصلحته معاً.
من هذه الردود القوية ذلك الذي نشره الكاتب إلير ديماليا، والذي نُشر في الجريدة نفسها (بانوراما) بتاريخ 28-08-2020؛ ففي هذا الردّ لفت الكاتب إلى أنّ هناك مؤسّساتٍ ومعاهد أُنشئت في ألبانيا لمراجعة العهد الشمولي، بينما "تأتي الآن محاولات فردية تجد من يموّلها ويروّجها في وسائل الإعلام ودور النشر لإعادة الاعتبار إلى رموز النظام الشيوعي". ومن هؤلاء المؤلّف نفسه الذي كان قد هرب خلسةً من ألبانيا بعد سقوط النظام الشمولي في 1990 خوفاً من انتقام الضحايا أو أهالي الضحايا الذين أودى بهم إلى القبور أو السجون، ويعود الآن ليتحوَّل "من مجرم إلى بطل" بهذا الكتاب.
وفي ما يتعلّق بالكتاب، يُقرّ الكاتب ديماليا بأنه حظي بترويج كبير لسبب واحد، ألا وهو لأنه يزعم أنّ النظام الشيوعي كان يلاحق كاداريه و"كان يحضّر التابوت له"، وحتى أنّ رأس النظام (أنور خوجا) أصدر أمراً باعتقاله، ولكن المؤلّف نجح في "إقناع" رأس النظام بإلغاء ذلك الأمر، من دون أن يقدّم وثيقة واحدة لإثبات ما يورده. وبعد ذلك ينتقل الكاتب إلى الطرف المستفيد من هذا الكتاب ليقول: "كلّ هذا الخيال يأتي الآن في خدمة إسماعيل كاداريه، وبالتأكيد بعلمه، وليس من المؤكّد بإسهامه، لكي يسوّق كاداريه باعتباره كاتباً منشقّاً ومن ضحايا الاضطهاد للنظام".
وفي الحقيقة أنّ كلّ من يعرف حتى من بعيد النظام الشمولي في ألبانيا، ودورات العنف والتصفيات الدورية خلال حكم الديكتاتور أنور خوجا (1944 - 1985)، يُدرك أنّ كل الكتّاب والفنّانين كانوا تحت المراقبة الدقيقة، وكانت تتمّ تصفية أفراد منهم من حين إلى آخر لبثّ الرعب لدى الآخرين ودفعهم أكثر نحو الولاء المطلق لـ "الزعيم".
وبسبب الحرج من الردود، اضطرّت جريدة "بانوراما" إلى إجراء مقابلة بواسطة الهاتف مع مسؤول كبير في النظام الشمولي، هو رابي فينو الذي كان يشغل منصب المدّعي العام في تلك السنوات التي يتناولها الكتاب، فأنكر أيةَ معرفة له بوجود توجُّه أو أمر أصدره أنور خوجا لاعتقال كاداريه.
ومع تزايُد الحرج، أجرت الجريدة في الخامس من الشهر الجاري مقابلةً مع الكاتب والمعارض المعروف للحكم فاتوس لوبونيا، الذي كان والده الكاتب تودي لوبونيا (1923 - 2005) أحد ضحايا التصفيات الدورية للنظام الشمولي في 1972. فضح فاتوس لوبونيا المؤلّفَ وجعله لاحقاً يعترف بأنه "كان تحت ضغوط كبيرة"؛ ففي هذه المقابلة انطلق لوبونيا من ظاهرة "التلاعب بالماضي" بهدف إعادة الاعتبار، للنفس أو للغير، وهو ما ينطبق هنا على كمال لامه واسماعيل كاداريه معاً، لأنّ المؤلّف "حاول أن يصوّر نفسه بأنه كان معارضاً، وأراد من هذا الكتاب إعادة الاعتبار إلى كاداريه".
من الصعب تقبُّل "مذكّرات" سياسية لا تتضمّن وثيقة واحدة
وانتقل من هذا إلى توجيه نقد قاسٍ لكبير المحقّقين في النظام الشمولي بوصفه "كبير المجرمين"، لأنه كان معروفاً بمسؤوليته عن فبركة الاتهامات الباطلة ضد المتّهمين وانتزاع الاعترافات منهم تحت التعذيب، والتي أدّت بالمتّهمين إلى الموت أو السجن. أمّا في ما يتعلّق بكاداريه، فقد أكّد لوبونيا أنّ "ما ألّفه من روايات، كما أنه بأقواله ومقالاته ومداخلاته في الاجتماعات الحزبية أو في جلسات مجلس الشعب (الذي كان عضواً فيه لثلاثة أدوار) أو في منصبه كنائب رئيس الجبهة الديمقراطية (الواجهة الشكلية للحزب الشيوعي)، إنما كان لتوفير دعم سياسي للنظام".
ولم يكتف لوبونيا بذلك، وإنما خصّص العدد اللاحق من الجريدة (11- 19 -2020) لتحليل كلّ أعمال كاداريه لإثبات ما قاله في المقابلة معه، حتى أنه وضع عنواناً قاسياً يوضّح الأذى الذي لحق بضحايا النظام: "اتّباع الخيط الأحمر لسياسة كاداريه - الضرر الذي ألحقه كاداريه بالتكوين السيئ للإنسان الألباني".
وممّا يؤكد هذه العلاقة التشابكية بين النظام الشمولي والروائي كاداريه ما رواه الكاتب المصري يوسف القعيد بمناسبة فوز كاداريه بـ "جائزة اورشليم"، حين ذكر في مقال له عام 2015 كيف أنّ السفير الألباني الجديد في القاهرة اتّصل به في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ليدعوه إلى بيته مع مجدي نصيف ويقول لهما إنه يريد مترجمين قديرين ليترجموا إسماعيل كاداريه، مُبرّراً ذلك بالقول "إن ألبانيا تهتم به لأن الزعيم أنور خوجا له اهتمام بنتاجه الروائي ويتصوّر أن رواياته يمكن أن تصل إلى العالمية".
وربما سنعرف يوماً ما مع نبش ملفّات النظام الشمولي كم أنفق ذلك النظام من دولارات لأجل ترجمة روايات كاداريه إلى مختلف اللغات، في الوقت التي كانت فيه الدولارات "عملة صعبة" بالفعل على المواطنين فيها.
مع هذا الكتاب السيّئ الذي أصدره "كبير المحقّقين" في النظام الشمولي، أو كما أصبح يُدعى الآن "كبير المجرمين"، تحوّل الجهد الذي بُذل فيه لانتشال كاداريه من ماضيه في الحكم الشمولي إلى عبء أكبر على المؤلّف وعلى كاداريه معاً، حتى أصبح الأمر يدور الآن في كيفية لفلفة هذه القضية الجديدة التي جاءت في وقت غير مناسب، سواء لكاداريه أو المعجبين به، والذين كانوا يرون أنّ له حظّاً أخيراً في جائزة نوبل للآداب.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري