محاكمة "ليالي الوباء": هل يسخر أورهان باموق من أتاتورك؟

17 نوفمبر 2021
خلال إحياء رسمي للذكرى 83 لرحيل أتاتورك، في إزمير، 10 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري (Getty)
+ الخط -

لا تنتهي الخلافات حول أورهان باموق في تركيا. فبعد الحملة التي شُنّت عليه قبل سنوات واتهامه بـ"إهانة الهوية التركية" أثناء حديث له حول قضية الأرمن وتهجيرهم من تركيا، تعرّض العام الماضي لحملة أخرى بسبب تصريحاته حول عدم تدريس الأدب بشكلٍ كافٍ في المدارس التركية، وأنه لم يتعلّم شيئاً عن الأدب خلال دراسته. بالإضافة إلى نظرة كثير من القوميين الأتراك إلى الحائز على "نوبل" باعتباره من "العملاء الثقافيين" الذين يكتبون للغرب وليس للأتراك. وقد تسبّبت رواية باموق الأخيرة في إثارة جدل جديد واتّهامات أخرى للكاتب التركي في بلاده.

وقبل الدخول في تفاصيل الحملة التي أوصلت باموق إلى المحاكم التركية بسبب روايته الأخيرة، التي صدرت في آذار/ مارس الماضي بعنوان "ليالي الوباء" عن دار "يابي كريدي"، تنبغي الإشارة إلى أن هذه الرواية قد أحدثت خلافات في الأوساط الثقافية التركية حتى قبل صدورها. 

فقد اختار باموق أن يعلن عنها قبل صدورها بشكل مختلف عن بقية رواياته السابقة، حيث قدّم عبر منصّة الدار الناشرة للرواية سلسلة فيديوهات قصيرة، جاء فيها: "’ليالي الوباء‘ هي قصّة فريق يسعى إلى وقف انتشار أحد الأوبئة في جزيرة عثمانية، إلى جانب محاربة العادات والتقاليد في تلك الجزيرة. كما تتناول مخاوف هؤلاء الناس وقصص حبّهم. ’ليالي الوباء‘ رواية بانورامية تقدّم نظرة عامّة حول آخر أيام الإمبراطورية العثمانية. وتوجد فيها بعض الأشياء التي تشير إلى الواقع، وتنشغل بمشاكل الحجر الصحّي والخوف من الموت والغضب على الدولة. هناك أيضاً جوانب سياسية بالتأكيد، يسألني عنها الجميع، ولكن هناك جوانب أخرى تعتمد على القصص القديمة والخيال".

اتُّهم بتقزيم أتاتورك عبر شخصية تشبهه في روايته الجديدة

حاول باموق أثناء إعلانه عن الرواية أن يؤكّد على أن انتشار فيروس كورونا ليس سبباً في كتابته لهذه الرواية التي تتناول الموضوع نفسه، وقال صاحب "اسمي أحمر" إنه يعمل على هذه الرواية منذ خمس سنوات، ولم يكن فيروس كورونا إلّا مُحفّزاً له على إنهائها ونشرها في أسرع وقت. إلّا أن بعض الكُتّاب والنقّاد لم يصدّقوه في ذلك، واتّهموه بأنه يفكّر في الأدب بشكل تجاري، وأنه كتب الرواية أثناء فترة كورونا الأولى وعليه الاعتراف بذلك. وقد ردّ عليهم فريقٌ آخر مدافعاً عن باموق بأنه عبّر لهم بالفعل عن رغبته في كتابة رواية تاريخية كهذه منذ عام 2007.

قبل انتهاء الخلافات حول توقيت كتابة الرواية، صدرت الرواية لتبدأ موجة جديدة من الاتهامات لباموق، لكنّها تتعلّق هذه المرة بإهانته لمؤسّس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك. ووفقاً للادّعاءات التي تقدَّم بها المحامي تارجان تولوك إلى مكتب المدّعي العام في شهر صدور الرواية نفسه، فإن باموق قد استخدم بعض التعبيرات المهينة لأتاتورك، وأنه يحثّ الناس على كراهيته، وهو ما يخالف الدستور، مستشهداً بالمادة رقم 5816 المعروفة بقانون "حماية أتاتورك"، الأمر الذي أدّى إلى استدعاء باموق للإدلاء بشهادته أمام القضاء.

صرّح باموق للصحافة بعد ذلك قائلاً: "إنّني لم أكتب في روايتي أيّ شيء يتعلّق بالغازي مصطفى كمال أتاتورك، ولو بالإشارة، ولا أقبل هذه الاتّهامات. بالعكس، لقد كتبتُ روايتي إعجاباً بالقادة الأبطال الذين دافعوا عن الحرّية".

الصورة
غلاف
غلاف الكتاب الصادر أخيراً لدى منشورات "يابي كريدي"

وفي هذا التوقيت، أصدرت دار نشر "يابي كريدي" بياناً حول الرواية، وضمن ما جاء فيه: "نفخر بنشر رواية ’ليالي الوباء‘ للروائي أورهان باموق الحائز على ’جائزة نوبل للآداب‘، وقد لفتت الرواية انتباه كثير من القراء. وكعادتنا في الوقوف إلى جانب الكاتب وإنتاجه، فإننا ضدّ الادعاءات الموجهة لأورهان باموق وروايته". 

بعد انتهاء تحقيقات مكتب المدّعي العام، تمّت تبرئة باموق من التُّهَم الموجهة إليه، وقِيل إن الرواية لا تحتوي أيّ إهانة لأتاتورك، وعلى العكس من ذلك، فإن شخصية كول آغاسي كامل، التي تمّ تشبيهها بأتاتورك، ذُكرت باحترام في الرواية. 

ورغم انتهاء القضية، إلّا أن الهجوم على باموق لم يتوقّف في العديد من الصحف التركية، من بينها صحيفة "حرّيات"، حيث كتب الصحافي المعروف أحمد هاكان مقالاً حول الرواية، ومن بين ما ورد فيه: "في ما يتعلّق بالاتهامات الموجهة لباموق في روايته الأخيرة، فسوف أذكر لكم النتائج بعد البحث والتدقيق: توجد شخصية في رواية ’ليالي الوباء‘ تُدعى كول آغاسي كامل، والملامح الرئيسة لهذه الشخصية كالتالي: يتخرّج من المدرسة العسكرية بدرجة عالية، ويصير ضابطاً شابّاً وسيماً يمشّط شاربيه الرقيقين إلى الأعلى، وهو مستاء من أمه لأنها تزوّجت للمرة الثانية، وكان يطارد الغربان في طفولته، وتمكّن من مداهمة مكتب البريد والسيطرة على نظام التلغراف، وسيصبح كامل هذا رئيساً للجمهورية في نهاية الأمر. كلّ مَن يقرأ الرواية سيعرف أن المقصود هو أتاتورك. لنطرح السؤال الرئيسي الآن: ماذا يريد باموق بحديثه عن أتاتورك، وماذا يريد أن يفعل؟ هل يريد خلق مشكلات جديدة في المجتمع التركي، وهل يريد لفت الانتباه لروايته أكثر أم يريد أن يوجّه رسالة إلى الخارج؟ هل يريد باموق أن يكرهه الأتراك تماماً، وأن يخرج من السوق الداخلي بشكل كامل أم يريد ’جائزة نوبل‘ مرّة أخرى؟ هل كان لعبة، فربما كان باموق يعرف ما سيحدث له بعد نشر الرواية، حتى يقول للغرب إن بلادنا ليست متسامحة على الإطلاق".

تلخّصت الاتهامات الموجّهة إلى أورهان باموق من قبل المعترضين على روايته الأخيرة في أنه استخدم شخصية كول آغاسي كامل لإهانة أتاتورك، رمز الدولة التركية. حيث أظهر الكاتبُ هذا الضابطَ بصفات تشبه صفات أتاتورك، وتتقاطع مع بعض تفاصيل حياته الشخصية. إلّا أن كول آغاسي كامل كان يسعى وراء مجده الشخصي، وصار ديكتاتوراً بعد أن أصبح رئيساً للجزيرة العثمانية، جاعلاً المواطنين يضعون اسمه في كلّ مكان بالجزيرة. كما اتُّهم باموق أيضاً بإهانة الدولة التركية عندما شبّهها في روايته بجزيرة صغيرة استولى عليها كامل/ أتاتورك، الذي لم يحصل طوال حياته العسكرية إلّا على ميدالية واحدة، والذي تمكّن من حُكم الجزيرة العثمانية بعد حروب صغيرة استولى خلالها على مكتب البريد ونظام التلغراف، في إشارة إلى تقليل حجم حرب الاستقلال التركية، والدور الذي لعبه أتاتورك في الحرب.

كأننا بحاجة للتذكير بالبديهيات وبحرّية العمل الإبداعي

ومن جديد قام المحامي نفسه بتقديم دعوى للمحكمة مرة أخرى بحق باموق، والغريب في الأمر، أن المحكمة قد ذكرت هذه المرّة أن الرواية تحتوي بالفعل على إهانة وتحقير لأتاتورك، وقبلت نقض المحامي وبدأت قضية باموق من جديد خلال الأيام الماضية. وقد تضامن عددٌ كبير من الكُتّاب والمثقفين مع باموق، كما أصدر "اتّحاد الناشرين الأتراك" بياناً يعلن مساندته فيه، وأبرز ما جاء فيه: "مثل هذه الدعاوى القضائية تخلق أجواءً من التهديد والتوتّر للكُتّاب والناشرين، وتُصعّب عملية النشر. إن حماية حرّية التعبير والنشر وعدم التدخّل في هذه الحريات من الحقوق الدستورية. نريد من القضاء أن يكون حذراً في قضية أورهان باموق، ونطالب السلطات باتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء هذه القضيّة على الفور. نحن ضدّ أي محاولة للمَسّ بحرّية التعبير والنشر".

عندما ننظر إلى مثل هذه الاتهامات الموجّهة لأورهان باموق، ندرك أننا في تركيا لم نتجاوز العديد من المشكلات، وبالأخصّ تلك المتعلقة بالمسائل القومية ورموز الدولة، وأننا بحاجة إلى طرح الأسئلة البديهية من جديد حول حرّية العمل الإبداعي، وحول الأدب والخيال. أمّا في ما يتعلق بباموق، فإنه يصرّ بتصريحاته العديدة بعد كلّ اتّهامٍ له، على أن يضع نفسه، كعادته، في السلّة نفسها مع مُتّهميه، بدفاعه عن شخصية روائية.


* مترجمة من تركيا

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون