استطلعت "العربي الجديد" آراء عدد من المثقّفين الأتراك حول تأثير القضية الفلسطينية في مجتمعهم، ورؤيتهم للاحتلال الإسرائيلي القائم على التطهير والإبادة، وتاريخ الصراع معه الذي لم يبدأ عام 1948، إنما تعود جذوره إلى نهايات الدولة العثمانية.
رغم أن علاقات الأتراك بالعرب في العصر الحديث مرّت بمنحنيات تاريخية عديدة، حيث تباعدت في كثير من الأحيان، وتقاربت في أحيان أخرى، وخصوصاً في العقدين الأخيرين، إلّا أن مَن يعرف المجتمع التركي من الداخل، بشكلٍ جيّد، يدرك أن فلسطين قد بقيت بعيدةً عن القضايا الخلافية التي شهدها المجتمع ونخبه، وأن التضامن مع فلسطين هو السمة السائدة وسط الانقسامات الحادّة بين اليمين واليسار، بمختلف أبعادهما الدينية والقومية.
وفي ظلّ العدوان الصهيوني الأخير على فلسطين، الذي يتزامن مع إحياء الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة، طرحت "العربي الجديد" بعض الأسئلة على عددٍ من الكُتّاب والأكاديميين والمحلّلين الأتراك، حول رؤيتهم لهذا العدوان على الشعب الفلسطيني ولقضية فلسطين بشكلٍ عام، وحجم تأثيرها في المجتمع التركي اليوم.
حول علاقة المجتمع التركي بفلسطين، يقول الشاعر نهاد أوزدال في حديثه إلى "العربي الجديد": "لا يمكنني الحديث عن رؤية القضية الفلسطينية وفهمها من بعيد، لكنّني لامستُ معاناة هذا الشعب عن قرب في المخيّمات، عندما كنتُ في برج البراجنة قبل سنوات. شاهدتُ المأساة التي يعيشها الفلسطينيون هناك منذ عقود، في مكان قريب من أضواء ليالي بيروت السعيدة. وقتَها، بدأتُ أُشَكِّلُ وجهة نظري التي تربط تاريخيَ بمصير الجغرافيا، أثناء رحلتي من تركيا إلى حيّ الأرمن في بيروت، ومنه إلى مخيم برج البراجنة".
يجب أن نقول بوضوح إن الفلسطينيين يتعرضون لإبادة جماعية
وتؤكد الشاعرة ألتشين سيفغي صوتشين عمق العلاقة بين الأتراك وفلسطين، حيث تقول: "هناك أسبابٌ دينية وتاريخية وجغرافية، وقبل كل شيء إنسانية، تجعل الأتراك ــ على مختلف مستوياتهم الفكرية ــ يتضامنون مع الشعب الفلسطيني الذي انتُزعت أرضه بالقوّة". وفي هذا السياق، تقول الروائية لطيفة تكين: "يجب ألّا نفكر بمنطق الحدود الضيّق. إنّ كل مشهد دمويّ، سواء كان في فلسطين أو ميانمار أو سورية، هو جزء من حياتنا. المأساة التي تعيشها فلسطين منذ عقود هي إحدى الحيَل الدموية للرأسمالية في الشرق الأوسط، وتتغذّى هذه اللعبة كلّ يوم على الدّم".
وتحثّ الشاعرة ثريّا فليز على ضرورة التضامن مع الشعب الفلسطيني؛ تقول: "يجب أن نكون مع الشعب الفلسطيني، وأن نكون دائماً ضدّ إسرائيل وكلّ مَن يدعمها. إن الظلم الذي يتعرّض إليه الفلسطينيون داخل بلادهم وفي المخيمات يحدث أمام أعين العالم أجمع، وعلينا الآن أن نرفع الكمّامات لدقيقةٍ ونصرخ في وجه إسرائيل وداعميها. إنّني أتصوّر أنّه لولا النكبة التي وصفها المؤرّخ السوري قسطنطين زريق بـ"الكارثة الكبيرة" لكانت فلسطين بوّابة الحضارات".
كما يؤكّد البروفيسور جنكيز تومار، المتخصّص في مجال التاريخ السياسي والعلاقات الدولية للشرق الأوسط، في حديثه إلى "العربي الجديد" أنّ الأمّة التركية كانت دائماً بجانب الشعب الفلسطيني. ويُفسّر تومار أسباب ذلك بقوله: "إنّ الأمّة التركية تعتبر فلسطين وطناً لها، والمسجد الأقصى معبداً لها".
الأمّة التركية تعتبر فلسطين وطناً، والأقصى مسجداً لها
ولكن، هل تمّ اختزال قضية فلسطين في تركيا بالجانب الديني فقط؟ يجيب عن هذا السؤال الأكاديمي والمحلّل السياسي عبد المطلب أربا، بقوله: "إنّ موضوع فلسطين اعتقاديٌّ في المقام الأوّل، قبل أن يكون سياسيّاً. وهو موضوع يخصّ كلّ المسلمين". بينما يرفض كوتلو دانا، الناشط السياسي والباحث في تاريخ الشرق الأوسط، هذا الطرح، في حديثه إلى "العربي الجديد"، ويعلّق: "لا يمكن إنكار الدور الذي يلعبه التصوير الأخير في تركيا لقضيّة فلسطين بوصفها قضية دينية، على ردود الأفعال القويّة تجاه فلسطين. ومع ذلك، ما زلنا نعتقد أن شعبنا لا يُعارض إسرائيل لأسباب دينية فقط، وأن جذور التعاطف تجاه الشعب الفلسطيني تكمن بشكل أعمق في البيئة السياسية في السبعينيات، أي في فترة ذهاب بعض رموز اليسار التركي، مثل دينيز جيزمش، لتلقّي تدريبهم العسكري في فلسطين، وتضامنهم مع قضية فلسطين ضمن التضامن الأممي".
ويتّفق الشاعر أنيس أكين مع فكرة عدم تضامن الأتراك مع فلسطين لأسباب دينية فقط. يقول: "لا داعي لوجود وحدة دينية من الأساس من أجل الوقوف مع شعب يعاني منذ عقود وتُنتزَع منه أراضيه وبيوته وفُرَص حياته. يجب أن تُحَلَّ هذه القضية على مستوى الدول، وخصوصاً الدول الكبرى". في حين أنّ عبد المطلب أربا يرى أنّ على المسلمين أن يتّحدوا في المقام الأوّل، ويقول: "إذا لم تقم منظّمة التعاون الإسلامي باتّخاذ قرارات حاسمة حول ما يحدث في فلسطين الآن فلا فائدة من هذه المنظّمة".
وتؤكد الشاعرة ألتشين سيفغي صوتشين ضرورة الالتفات إلى أن إسرائيل هي التي تجرّ قضية فلسطين إلى مساحاتٍ دينية، إذ تقول: "للأسف، لم تفاجئنا الهجمات الإسرائيلية في آخر أيّام رمضان. ولسنا بحاجة لأن نكون متخصّصين في السياسة الخارجية لكي نفهم أن هذه الهجمات متعمدّة، فكلّ من يتابع الصحافة يعرف أن هذا الهجوم يمثّل هجوماً على القيَم التي يعتبرها الإسلام مقدّسة، وأن الغرض الرئيسي منه هو إثارة هجمات مضادّة من قبل المسلمين أثناء دفاعهم عن أنفسهم، في ظلّ الحملة عليهم واتهامهم بالإرهاب. وهذا موقف متعمّد وخبيث للغاية".
الذين لا يفعلون شيئاً غير الكلمات الرمزية يلعبون لصالح الصهاينة
ويشيد البروفيسور جنكيز تومار بالدور الذي تلعبه الحكومة التركية في أحداث فلسطين الجارية، إذ يقول: "تركيا صاحبة ردّ الفعل الأقوى على ما تقوم به إسرائيل، لكنّ فلسطين لم تتلقَّ نفس الدعم من بلدان العالم الإسلامي والعربي، التي تتقاتل لأسباب عِرقية ودينية في ظل وجود أنظمة ديكتاتورية تُفضّل قتال شعوبها والدول الإسلامية الأخرى بدلاً من إسرائيل". ويطالب عبد المطلب أربا الحكومة التركية باتّخاذ خطوات ملموسة في هذا الملف، قائلاً: "هناك دعمٌ شبه كامل من الأتراك بمختلف تيّاراتهم لقضية فلسطين، ويجب استخدام الحكومة لهذا الدعم. وهناك بالفعل ضغوطٌ من الداخل على الحكومة التركية من أجل اتخاذ خطوات ملموسة حتى لا تستمر النكبة".
أمّا الشاعر والروائي خليل إبراهيم أوزجان، فيعترض على طريقة تعامل الحكومة التركية مع القضيّة الفلسطينية، ويقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "إن اليمين المحافظ الذي يحكم تركيا منذ سنوات يعتمد نهجاً براغماتيّاً للغاية تجاه فلسطين، وردود أفعال هذه الحكومة تستند إلى منطق المنفعة على المستوى الاستراتيجي". بينما يناقش الباحث كوتلو دانا هذه الفكرة من زاوية أخرى، ويقول: "مصالح اليمين التركي تتماشى تاريخياً مع مصالح الإمبريالية، بينما رفع الاشتراكيون راية النضال ضد الإمبريالية، وبالطبع الصهيونية. إننا نعتبر أن هذا الإرث مهمّ جدّ، لأنّ فيه خطّاً ثابتاً يتمثّل في مواجهته للإمبريالية والصهيونية، في حين أن الإسلاموية التي صعدت بعد عام 1980 ليس لديها معارضة ثابتة وراسخة ضدّهما، وغالباً ما تتضمّن معاداة الإسلامويّة لإسرائيل عناصر من معاداة السامية مِن ناحية، وغير متّسقة من ناحية أخرى، لأنها تخلط بين اليهودية والصهيونية".
إلّا أنّ الشاعر أنيس أكين يرى أن الدين في الأساس ليس وحده المحرّك للانتهاكات التي تمارس ضدّ الفلسطينيين منذ سنوات، ويؤكّد أنّ القوميّة هي أيضاً أحد هذه الأسباب، إذ يقول لـ"العربي الجديد": "الإبادة التي يتعرّض إليها الشعب الفلسطيني ليست اختراعاً فاشيّاً خاصّاً بإسرائيل، إنّها سمةٌ من سمات الدول القومية. ولذلك، يجب القضاء على الأمم والأديان كمعيار لبناء الدول".
نكبة 48 نتيجةٌ لتغيير ديموغرافي بدأ في القرن التاسع عشر
وتعليقاً على العدوان الصهيوني الأخير، يقول خليل إبراهيم أوزجان: "إنّ عدم التزام إسرائيل بالاتفاقيات التي وقّعتها دولياً، يضع حتّى "حلّ الدولتين" محلّ تساؤلٍ دائم، لكنّني أيضاً لا أظنّ أنّ منظمات مثل "حماس" ستحلّ هذه المشكلة". ويرى أنيس أكين أنّ أطراف الصراع في فلسطين ليست متساوية، إذ يقول: "هناك كذبة يتردّد صداها في وسائل الإعلام المهيمنة توحي بأن أطراف الصراع متساوية في هذه الحرب. يجب أن نقول بوضوح إن فلسطين تحت الحصار، والفلسطينيين يتعرّضون إلى إبادة جماعية".
ويؤكّد كوتلو دانا هذه الفكرة، إذ يقول "ما يحدث في فلسطين اليوم هو برنامج تطهير عرقي. وقد وجّه الفلسطينيون ومنظّمات المقاومة الردّ اللازم على هذا، ونحن ندعم كفاحهم بأيّ شكلٍ، ونعتقد أن الذين يخذلون الشعب الفلسطيني، ولا يفعلون شيئاً غير استخدام الكلمات الرمزية، يلعبون في الواقع لصالح الصهاينة".
وأخيراً، يعلّق البروفيسور جنكيز تومار حول ذكرى النكبة بالقول إنها لم تبدأ في عام 1948. يوضّح: "لقد بدأت النكبة في القرن التاسع عشر، مع إضعاف الدولة العثمانية، ودعم بعض الدول مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا لهجرات اليهود. وقد حاول السلطان عبد الحميد المقاومة، لكن قوّته لم تكن كافية، وبدأت النكبة بالتغيير في التركيبة السكانية لفلسطين والقدس. أعتقد أن نكبة عام 1948 هي نتيجة لهذا التغيير الديموغرافي".
كما يؤكّد الباحث كوتلو دانا، في هذه الذكرى، ضرورة الالتفات إلى أنّ ضمان عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه شرطٌ ضروري لإلغاء الإمبريالية والرأسمالية في منطقتنا. ويوجّه كلمة إلى العدوان الذي يمارس التهجير القسري والتطهير العرقي، قائلاً: "نحن على يقين، لو كانت آن فرانك على قيد الحياة الآن لبصقت في وجه الصهاينة".
وفي جملةٍ واحدة حول ذكرى النكبة، يعلّق الشاعر نهاد أوزدال بعنوانِ رواية: "يافا تُعِدُّ قهوةَ الصباح".