ما يشبه الثّعلب

09 أكتوبر 2021
ماري سمُر/ بريطانيا
+ الخط -

على جانب الطّريق السّريع، وبينما كنّا متّجهين إلى بيت عمّتي الذي يبعد ساعتين عن مكان سكننا، عثرنا عليه. كان حيواناً صغيراً لا أملك وصفاً له سوى أنّه يشبه الثّعلب، يتحرّك ببطءٍ في دائرةٍ ناظراً إلى الأرض تحته، كأنّه يبحث عن شيءٍ فقده، وحين لاحظ اقترابنا أنا ووالدي تسمّر في مكانه، كأنّه وجد ما يبحث عنه، ليدخل وحده إلى العلبة التي أحمل.

وضعناه في صندوق السّيّارة وصحبناه معنا في رحلتنا. كانت فرحتي عارمةً لأنّني سأظهره أمام أطفال العائلة، وسأخبرهم كيف اصطدتُه وحدي بلا مساعدةٍ من أبي. وعندما شاهدتْه العائلة، خاف الكبار منه أكثر من الصّغار، الذين اقتربوا بحرصٍ، ولمسوه لمساتٍ سريعةً حذرةً، سرعان ما تحوّلتْ إلى ربتٍ طويلٍ على فروه الدّافئ.

سأل الأطفال آباءهم عن نوعه، فلم يعرفوا، ثمّ سألوني عن الاسم الذي اخترتُه له، فأجبتُهم أنّني لن أسمّيه، إذ لا أشعر أنّه يحتاج اسماً، أو أنّه سيأبه به. شجّعوا بعضهم بعضاً، فكثرت الأيادي التي تضغط على جسده. استعدتُه منهم ممسكاً إيّاه برفقٍ، فأنزلتُه على العشب كي يستريح قليلاً، ويلعب بعد حبسه الطّويل في صندوق سيّارتنا.

لعبتُ بتناغمٍ مع الحيوان الذي لم يبقَ منه الآن في ذاكرتي سوى صورةٍ ضبابيّةٍ، كأنّنا صديقان منذ زمنٍ، وسط دهشة الجميع، الذين شاهدوا من بعيدٍ.  كان يقلّد أفعالي، يركض عندما أركض، يقفز عالياً في مكانه مثلي، ويتبعني إلى أعلى الكتل التّرابيّة التي تحتاج منه التّسلّق لصغر حجمه.  كنتُ أحمله في الهواء، فأصنع منه طائراً يخترق غيوماً من أوراق الأشجار، لأجعله يهبط على الزّحلوقة، فتتكفّل الجاذبيّة بوصوله إلى الأرض.

نادتني عمّتي كي أساعدها في حمل أطباق الطّعام. تبعني إلى الباب، فطلبتُ منه البقاء واللّعب مع ابنة عمّتي الصّغيرة. مشى معها فسررتُ أنّه فهم الأمر. وعندما عدتُ، وجدتُه مختبئاً في مساحةٍ ضيّقةٍ أسفل الدّرج. كانت ابنة عمّتي تحاول إخراجه، لكنّه بقي متأهّباً في مكانه، ينظر بقلقٍ إلى جانبه، حيث انتبهتُ إلى وجود حشرة "عصا موسى" السّوداء. أزحتُها بعيداً بغصنٍ صغيرٍ، وأخرجتُه جارّاً إيّاه برفقٍ من ذيله، فتشاركتُ معه طمأنينته.

تذكّرتُ ــ عندما تجمّعتِ العائلة حول المائدة ــ أنّه لم يأكل شيئاً منذ وصوله. وضعتُ له قطعة لحمٍ صغيرةً وماءً وحليباً، وراقبتُه وأنا أتناول طعامي. لم يقترب من اللّحم أو الحليب، لكنّه شرب بعطشٍ كبيرٍ الماء كأنّها مرّته الأُولى، فأحضرتُ له المزيد.

في المساء، لعبتُ كرة القدم مع الأولاد. أجلستُه على كرسيٍّ يسمح له بمشاهدة المباراة في موقعٍ يحميه من ضرباتنا. كانت حركة رأسه وهي تتبع الكرة أينما ذهبتْ، تشبه مدفعاً يحاول اصطياد القذائف العشوائيّة. لاحظتُ بعد ذلك أنّ حركات رأسه صارت أبطأ، وأنّه يمطّ نفسه إلى الأمام وهو يتثاءب.

تركتُ المباراة رغم اقتراب الفريقين من هدف الفوز. أعدتُه إلى علبته التي أكثرتُ فيها فتحات التّنفّس، وأغلقتُها ليتمكّن من النّوم، لكنّه بدأ بالتّحرّك والاصطدام بجوانبها. أزلتُ الغطاء فلم يوقف حركته. سقيتُه بعض الماء، وتذكّرتُ أنّ والدي أخبرني مرّةً أنّي لم أكن أستطيع النّوم في شهوري الأُولى، إلّا إذا حملني ومشى بي، وأنّه كان أحياناً يضطرّ إلى الرّكض حاملاً إيّاي، كي أتوقّف عن البكاء وأستسلم للنّوم.

صنعتُ له من قميصي سريراً، وأخذتُ أمشي وأركض به ممسكاً جسده برفقٍ. غطّ في النّوم بعد جهدٍ كبيرٍ. كان جفناه يتحرّكان بسرعةٍ، وتمكّنتُ بطريقةٍ غامضةٍ من النّفاذ إلى كابوسه، فشاهدتُ أمّه وهي تُدهس أمامه، فيطير جسدها في الهواء، ويهبط خارج مجال رؤيته، دون أن يقدر على اللّحاق بها خوفاً من نهر السّيّارات، الذي أجبره على الارتداد كلّما لامس حافّة الشّارع، كأنّه يصطدم بحاجزٍ مطاطيٍّ، فعلق حيث وجدناه، غير قادرٍ على المغادرة، كي يظلّ في النّقطة الأقرب إلى أمّه.

أدخلتُه في العلبة بهدوءٍ، أغلقتُها عليه، ووضعتُها في صندوق السّيّارة كي لا تزعجه الأصوات حولنا، أو توقظه عائلتي عندما تركب. ولمّا حان وقت العودة إلى البيت، شعرتُ أنّه لم يكن قادراً على النّوم. فتحتُ الصّندوق، فقفز قفزةً تعجّبتُ من ارتفاعها، فهدّأتُه بالرّبت عليه. حملتُه في علبته إلى المقعد الخلفيّ، وصنعتُ له من يدي شريك لعبٍ في الطّريق.

كنتُ أفكّر ــ وأنا أحسّ بضرباته تصطدم بيدي ــ أنّي سأتجوّل معه مستقبَلاً في الحيّ، بلا حبلٍ يقيّده، واثقاً بصداقته، وغير آبهٍ بتحذيرات عمّتي من أنّه سيلتهمني وقتها، وأنّ حجمه الكبير سيجعلني أنتقم من الأولاد الذين اعتادوا مضايقتي.

وصلنا البيت في ساعةٍ متأخّرةٍ. لم تسمح لي أمّي بأن أبقيه في الدّاخل، فوضعتُه في شرفة غرفتي. أحضرتُ له حليباً ممزوجاً بملعقةٍ من العسل، وأخذتُ ألعقه أمامه، مشيراً إليه ــ مرّاتٍ عدّةً ــ أن يقلّدني، فتناول رشفاتٍ قليلةً.

كانت ليلةً ربيعيّةً، غطّيتُه بقماشةٍ خفيفةٍ، وتركتُ غطاء العلبة مفتوحاً. تمنّيتُ له أحلاماً سعيدةً، وذهبتُ إلى النّوم بسبب إلحاح أمّي، كي أستطيع الاستيقاظ باكراً للمدرسة.

تبعتْني أحلام يقظتي إلى المنام. رأيتُني أصعد على ظهره مرتدياً حقيبتي المدرسيّة، ليقفز بي من سطحٍ إلى آخَر. كانت الطّيور والطّائرات تحلّق حولنا، وكنتُ ألوّح للمسافرين وللنّاس في شققهم. هبطنا أخيراً على سطح مبنىً يُطلّ على صفّي. قفزنا من نافذته التي اختفتْ قضبانها، محدثين صوت اصطدامٍ بالمقعد أخاف الجميع، ولم يجرؤ المعلم على التّعليق كعادته على وصولي المتأخّر. طردتُ شريكي في الدُّرج، وأجلستُ الحيوان كبير الحجم قربي. ظلّ طوال اليوم يتحدّث معي بصوتٍ كالذي في الرّسوم المتحرّكة رغم شرح المعلمين، وكنتُ كلّ هنيهةٍ أغمزه، فيدير وجهه، ويصرخ في وجه الولدين السّمجَين خلف مقعدي، فينكمشان حتّى يصيران أصغر من حقيبتيهما.

ما إن فتحتُ عينيّ صباحاً، حتّى ذهبتُ إلى الشّرفة كي أتفقّده، لكنّه لم يكن هناك. بحثتُ عنه تحت القماشة والعلبة، وفي الزّوايا الضّيّقة حتّى على النّمل، فلم أجده في أيّ مكان. كان كلّ شيءٍ على حاله، فازدادت حيرتي. وقفتُ على حافّة شرفتي في الطّابق الخامس، ونظرتُ إلى ما ظهَر من سطح العمارة، وإلى الشّرفات في الأسفل وساحة السّيّارات، دون أن أجده.

أيقظتُ أبي وأمّي صارخاً فيهما بوقاحةٍ بقيتْ داخلي من المنام، متّهماً إيّاهما بأخذه بعيداً في اللّيل، فأقسما لي أغلظ الأيمان، مذكّرَين إيّاي بالصّوت المرتفع الذي يصدره باب شرفتي وهو يُفتح، وبنومي الذي يزعجه الهمس.

فتّشتُ سطح المبنى، ثمّ أيقظتُ سكّان الشّقق تحتنا بالضّغط مراراً على الأجراس، كي أتفقّد شرفاتهم، غير آبهٍ بخجلي الذي كان يمنعني من دقّ بابهم عصراً. ومن الشّرفة الأرضيّة توجّهتُ إلى السّاحة، فبحثتُ تحت السّيّارات وداخل الزّوايا العديدة والحفر، وفي بقيّة طرقات الحيّ، حتّى وصلتُ الحرش القريب حيث تكثر أماكن الاختباء، لكنّني لم أعثر على أيّ أثرٍ له، رغم الوقت الذي قضيتُه هناك.

أجبرني أبي وأمّي، بعدما لحقا بي، على الذّهاب إلى المدرسة. قالا إنّهما سيكملان البحث عنه، وأكّدا براءتهما مجدّداً. فاتني باص المدرسة فأوصلتْني أمّي بسيّارتها. دخلتُ الصّفّ متأخّراً، ناظراً بعينَي الحيوان في المنام إلى المعلّم الذي همّ بالتّعليق، فسمعتُ صوت ابتلاع كلماته.

قضيتُ الدّوام كلّه وأنا أبحث عن تفسيرٍ لأمر اختفائه. لم أنظر إلى اللّوح، أو أستمع إلى الأصوات حولي، وتجنّبني الجميع كأنّ الحيوان ــ الذي اختفى كقطعة نقدٍ سقطتْ في المحيط ــ لا يزال يجلس قربي. تكلّمتُ مرّةً واحدةً لأسأل في الفسحة معلّم الأحياء عن الأمر، فاستبعد عثوري على كائنٍ غامضٍ يشبه الثّعلب، يختفي بالطّريقة التي وصفتُها.

عاودتُ البحث مع أبي فور وصولي البيت. ذهبنا إلى أماكن أبعد، سألنا كلّ شخصٍ نجده في طريقنا. ولم أيأس من البحث إلّا عند انقضاء أسبوعٍ كاملٍ على اختفائه، مقنعاً نفسي أنّ طائراً جارحاً شاهده وانقضّ عليه، رغم أنّ الشّمس كانت قد بدأتْ بالإشراق حين تفقّدتُه.

...

ثلاثة أشهرٍ انقضتْ وأنا أفكّر في لغز اختفائه، وفي الأماكن العديدة التي لا بدّ أن يكون قصَدها، وكيفيّة تدبيره أموره.

وحين كنتُ مستلقياً على سريري أحدّق دون تفكيرٍ في السّقف، سمعتُ صوتاً قادماً من الشّرفة. فتحتُ الباب مسرعاً، فوجدتُه مضرّجاً بدمائه يزحف نحو علبته المفتوحة. كان أكبر حجماً من السّابق، بمخالب بارزةٍ وفروٍ يعجّ بالجروح والكدمات، ولم تترك قطرات دمه خلفه أثراً يدلّ على طريق عودته.

جلستُ على الأرض قربه محدّقاً في عينيه اللّتين ازدادتا سواداً، ونبضتْ كلٌّ منهما كقلبٍ يتكفّل بجسدين. بدأ يهمهم بصوتٍ متعبٍ لا يشبه الصّوت الذي تخيّلتُه له، كأنّه يحاول إخباري قصّة اختفائه، ولم أستطع النّفاذ إلى الكلمات رغم الجهد الذي بذلتُه في اختراق الحاجز.

كان يحتضر قرب يدي الخائفة من أن تمسّه، وكنتُ أنتظر بفارغ الصّبر انطفاء همهماته التي بدأتْ تخفت شيئاً فشيئاً. وعندما لم يعد قادراً على الاستمرار أكثر، ألقى عليّ نظرةً أخيرةً بدت امتداداً لقصّته، أعادت صمت الأشهر الماضية إلى الشّرفة التي كانت في أبعد مسافةٍ عن اسمها.

حملتُه بيديّ المرتعشتين، وضعتُه في العلبة التي لم تعد تناسب حجمه، وأغلقتُها عليه. أخذتُه إلى الحرش القريب، ودفنتُه قرب شجرةٍ في مكانٍ يصلح للاختباء، دون أن أخبر أحداً بأمر عودته.

أحياناً كثيرةً، وأنا أعبر الطّريق قرب الحرش، أشعر برغبةٍ في أن أخرجه من التّراب، لعلّ خيالي يصنع من هيكله العظميّ صورةً له أوضح من تلك التي في ذاكرتي، لكنّي أعلم أنّي حين سأفتح العلبة لن أجده.


* كاتب من فلسطين. والقصّة من مجموعته "جيجي وأرنب علي" الصادرة حديثاً عن "القطّان" و"الأهلية"

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون