مع محاولة انتحار في جعبتها وإدانتها بجريمة قتل، عاشت الكاتبة التشيلية ماريا لويسا بومبال María Luisa Bombal حياتها مثل أدبها، بين الحقيقي والخيالي، المعقول وغير المعقول، أحلام الواقع ومنامات اللاشعور. بعد أن وصفها غابرييل غارسيا ماركيز بأنها "رائدة ما أصبح يُطلق عليه الواقعية السحريّة"، ذاع صيتُها كواحدة من أهم الروائيات التي كانت تربطها علاقة صداقة حميمة مع كل من بابلوا نيرودا، وفيدريكو غارسيا لوركا، وخورخي لويس بورخيس.
مع ذلك، وقياساً للمُناخ الثقافي الذي كانت تتحرّك فيه، عاشت الكاتبة (1910 - 1980) حياة أدبية هامشيّة، إذ جرى تجاهل أعمالها لمدّة من الوقت على الرغم من العوالم الداخلية الأنثوية الفريدة التي أثارتها في أعمالها الروائيّة، إضافة إلى أصالة وفرادة القضايا والمشكلات التي طرحتها وعالجتها، الأمر الذي دفع، مؤخّراً، دار نشر Seix Barral البرشلونيّة المعروفة إلى نشر أعمالها في مجلَّد واحد تضمَّن روايتيها "الضباب الأخير" و"المكفنة"، وقصصها القصيرة، فضلاً عن دراسات بقلم كل من بورخيس، ولوثيا غيرا، وخوسيه بيانكو تتناول أدب هذه الكاتبة، وأخيراً المقابلات التي أُجريت معها.
نشأت بومبال في عائلة ثقافية، وتعوّدت منذ صغرها على قصص هانز كريستيان أندرسن والأخوَين جريم التي كانت والدتها تترجمها مباشرة من الألمانية إلى الإسبانية. وفعلاً كتبت قصائدها الأولى في سن الثامنة. درست الأدب الفرنسي في جامعة السوربون، وهناك كانت قراءاتها الأولى لكل من بودلير، وفاليري، ورامبو، وباسكال الذين أثّروا بشكل حاسم على كتاباتها.
عاشت حياة أدبية هامشية وجرى تجاهل أعمالها لمدّة من الوقت
في العام 1933، بعد محاولة الانتحار المأساوية التي باءت بالفشل، قرَّرت والدتُها إرسالها للعيش مع الشاعر بابلو نيرودا وزوجته ماريا في الأرجنتين. هناك، وبمساعدة نيرودا نفسه، راحت ماريا تتحرّك في الدوائر الفكريّة العليا، ناسجةً علاقات مع كلّ من بورخيس، وراؤول غونزاليس تونيون، وأوليفيريو جيروندو، وكونرادو نالي روكسلو.
"لقد كان الكاتب آنذاك شخصاً استثنائياً، كائناً رائعاً، عقلاً وقلباً. لقد تشاجرنا كثيراً في ما بيننا، مع ذلك كلُّ شجار وقع بيننا لم يكن معركة، بل نقاشاً حول الأدب. لقد كان أدباً بكل معنى الكلمة"، تُعلّق بومبال على تلك المرحلة، كما تسرد في إحدى مقابلاتها - التي تُنشَر لأوّل مرّة في الكتاب - على شاعر غرناطة فيدريكو غارثيا لوركا. "هناك في الأرجنتين، بعد عام كامل من نجاح مسرحي باهر، جاءت لحظة عودته إلى إسبانيا. ذهبنا جميعاً لنقول له وداعاً. عندما غادرت الباخرة، صرخنا: فيدريكو! فيدريكو! كان يعرف أنه سيموت. في يوم مغادرته، كان حزيناً جداً. فسألته: ولكن فيدريكو، ألست سعيداً بالعودة إلى أرضك؟ فأجاب: كلّا يا فتاتي، ثمّة أشياء رهيبة تحدث هناك"، تسرد الكاتبة هذه التفاصيل، إضافة إلى العديد غيرها في إحدى المقابلات المنشورة في الكتاب.
في العام 1934، نشرت ماريا لويسا بومبال روايتها الأولى التي حملت عنوان "الضباب الأخير"، التي استوحتها من قصّة حبّها الحقيقية والمحبطة مع إيولوخيو سانشيز. صنّف النقد الرواية على أنّها واحدة من أهم معالم السرد التي كتبتها امرأة في أميركا اللاتينية. بلغة شعرية استثنائية، تعالج في الرواية موضوع الرغبة والنشوة الجنسية من منظور أنثوي. استطاعت الكاتبة التشيلية في هذه الرواية، التي كتبتها في منزل نيرودا، تحديداً في مطبخه - كما تذكر في إحدى مقابلاتها - أنْ تقتحم الطبقات التي عزلت الجسد الأنثوي ومنعته من التعبير عن أبعاده الشهوانية على مدى قرون عدّة.
بعد أربع سنوات، في العام 1938، نشرت روايتها الثانية التي حملت عنوان "المكفنة". تتناول الرواية قصّة امرأة ميّتة باستطاعتها أن ترى حياتها، أن تتذكّرها وأن تشعر بها. تروي بومبال أنها حدّثت بورخيس عن فكرة الرواية، فقال لها بنبرة رافضة، إنها رواية مستحيلة الكتابة لعدم وجود حدود بين الواقعية وما يتجاوزها. غير أنها، وكما تذكر، لم تنصت إليه، وتابعت كتابة الرواية استناداً إلى الفكرة نفسها.
غير أنّ اللافت في الأمر أنَّ بورخيس نفسه، وبعد نشر الرواية كتب: "لقد تحمّلت ماريا بجرأة وشجاعة انتقاداتي واعتراضاتي على الراوية عندما عرضَتها عليّ أوّل مرّة، لكن بعد أن قرأتها في نسختها الأخيرة، أيقنتُ أنّها تجاوزت هذه الانتقادات والاعتراضات بمهارة عالية. إن لغة ماريا لويسا بومبال السردية شعرية بامتياز، إنّه كتاب سحر حزين، كتاب مرتَّب ومنظَّم بشكل غامض وفعّال، كتاب لن تنساه أميركا على الإطلاق".
قد تكون حياتُها الرواية الوحيدة التي لم تستطع كتابتها
قد تكون حياة ماريا لويسا بومبال الرواية الوحيدة والمستحيلة التي لم تستطع كتابتها، لكنها مع ذلك عاشتها كبطلة رومانسية قاست أشنع أنواع الاكتئاب والخيبة، بعد أن تمّت خيانتها من قبل زوجها، ممّا دفعها إلى إطلاق النار عليه في ثلاث محاولات. "بقتله، أكون قد قتلت، بطلقة رصاصية، حظّي السيئ!". انتهى الأمر بها، بعد هذا الفعل الشنيع، إلى السجن، حيث اضطرّت إلى قضاء عدّة أشهر إلى أن أُفرج عنها، بعد أن برّأَها زوجها السابق من كل ذنب، تماماً، على غرار نهاية روائية بامتياز.
بعد تلك الحادثة، عاشت رفضاً علنياً من قبل المجتمعَين الأرجنتيني والتشيلي، وذهبت للعيش في نيويورك، المدينة التي رحّبت بها لمدّة ثلاثين عاماً تقريباً. هناك التقت بالكونت الفرنسي فال دي سان فال الذي تزوّجت به عام 1944 وأنجبت منه ابنتها الوحيدة. في تلك الأثناء، انصرفت إلى كتابة القصص القصيرة، ونشرت العديد منها، مثل "الضفائر" و"الشجرة" و"الجزر الجديدة"، مبرزةً اهتماماً شديداً بإيقاع نصوصها، حيث كانت تبحث، كما ذكرَت أكثر من مرّة، عن "إيقاع يشبه المد والصلاة؛ إنها موجة ترتفع وتنخفض ثم ترتفع مرّةً أُخرى. أعتقد أنّني في أعماقي شاعرة، أو أعيش، على الأقل، حالة الشاعرة التي تكتب النثر".
بعد رحيل زوجها، عادت إلى الأرجنتين، لتمضي هناك وقتاً قصيراً، ثم بعد ذلك إلى تشيلي، بلدها الأم، حيث رحلت في عام 1980، تاركةً رسالة أخيرة إلى شقيقتها تقول فيها: "روحي مريضة، لقد خسرتُ كلّ شيء، حتى الفرح ورغبة الحياة. أعاني باستمرار من ألم لا يُفسَّر ولا يُطاق. لم يعد لي جَلَد على هذه الحياة".