ماذا عن قصة الحرب السورية؟

21 اغسطس 2023
جزء من عمل بعنوان "سلالم المدينة" للفنانة اللبنانية زينة عاصي
+ الخط -

لاعتباراتٍ كثيرة لم تحظَ القصة السورية بـ"النجومية" التي حظيت بها الرواية السورية في العقد الأخير. وهي اعتباراتٌ لا تأتي من اشتراطات الفنّ، وإنَّما أظنّها تسويقية مُرتبطة بفَهْم الحدَث السوري ككلّ، بقراءته، وأحياناً بإشراك الآخَر به، اعتبارات أعطت دفعاً لعدد من الروايات السورية في اللغات الأُخرى. إذاً، الرواية فنٌّ مطلوب، يطلُبه الحدث نفسه، ويطلبه متلقّو الأدب. إذ بمقدور الرواية أن تتضمّن في سرديتها التحليل السياسي، والبحث التاريخي. والأهم بمقدورها أن تعرض المصائر في تعاقُبها واسترسالها الزمني.

لكن بالنظر إلى تجربة القصة السورية في السنوات الأخيرة، يقع القارئ على فنّ هادئ لا يرجو الاحتفاء ولا يكترث بالمقاعد الأولى. فنٌّ خدمه - إبداعياً - دفعُه إلى الهامش. فالقاص السوري، بصورة عامة، يكتب وهو يعرف أنَّ القصة التي يكتبها مشغولة بمعيار واحد هو الفنّ، والاحتراق الداخلي. وتلك الالتقاطات من الحياة التي سُرعان ما انتبه السوريون العاديون إلى أنَّها تُوشك أن تنتهي تحت الردم.

محاولات قصصية للخروج من الواقع بمعادلات فنّية جديدة

في تجارب عديدة، يُمكن للقارئ أن يلتقط تلك الحياة العادية التي عصفت بها الحرب؛ أمرٌ نراه في المجموعة القصصية للكاتبة روعة سنبل (1979) "دو، يك" الصادرة هذا العام عن دار "ممدوح عدوان". وفي القصص يلتقي خطّان؛ أحدهما ينهب العيش والآخَر يمدُّه. إذ فيما تُعاني شخصياتها واقع الحرب؛ بما فيه من فاقة وتقتير، إلى جانب التعايش مع سهولة حدوث الموت، وما يتركه من ضحايا. أقصد، أبناء الموتى، زوجاتهم، وذكريات عيشهم في نفوس الآخرين. وهذا خطّ يَسِمُ جميع قصص المجموعة؛ لكن في مقابله، تستعين الكاتبة بخطٍّ آخر، يأتي من التعبير نفسه، من قوّة الفنّ، وأسلوب القصص، وكأنَّ الكاتبة عبر القصّ تمدُّ لشخصياتها بُعداً آخر، مُرتبطاً بالسرد. كما في حكاية الحفيدة التي تستلفُ القصص من جدتها، وحكاية المُسافرة التي تبني قصةً وتنهينها وهي تنظر إلى المُسافر. الخيالُ هنا، أشبه ما يكون باليد التي تمسح على ضحايا الحرب. وتضع أكثر حكاياتهم سوداوية في صندوق السحر.

المؤكّد أنَّ روعة سنبل في مجموعتها تحتفظ بالواقع مرجعية للقصّ، أمرٌ نجد نقيضه في مجموعة القاص السوري ساري موسى (1990)، في مجموعته "تعزيات الفشل" الصادرة عن دار "التنوير" عام 2021. إذ في مجموعته التي تنشغل بمجملها في عالم الكتابة، بدا أنَّ موسى تخلّى عن مرجعية الواقع، وهو تخلٍّ يُشبه أن يكون خياراً، ما نستدل عليه من جوّ القصص الذي يسوده ضياع الحبّ، وغياب فُرص التحقّق للكاتب الذي يُريد أن ينشر، وللشابّ الذي يُريد أن يعمل، وللعاشق الذي يُريد أن يجيد الحبّ. صحيح أنَّ المجموعة ترصد الكثير من مآلات الفشل، وترجو صُنع عزاءٍ ما، إلّا أنَّ الشخصيات التي تظهر فيها، غالباً ما تلفتها شخصيات قادمة من الكتب، من الروايات. غالباً ما تأخذ حكمتها من الكتب. حتى الخفافيش التي تملأ المكتبة، أساساً خرجت من قصص إدغار آلان بو. حتى إنَّ المكتبة نعشٌ. وعندما يتحّدث العاشقان إلى بعضهما، يتحدّثان عن القراءة والكتابة.

لا تنشغل بالمقولة، بل بإيجاد حلول سردية للواقع الأليم

الشخصيات كلّها، يظهر أنَّها خرجت من الروايات لتُتابع حياتها على مقربة من الكتب. عالم المجموعة برمّته؛ ليس إلّا هروباً إلى رأفة تصنعها الكتب. تبدو المجموعة، لهَوسِ غياب مفردات الحرب منها؛ مكتوبة كي تنفي الحرب. النفي ذاته الذي أنجزته الأخيرة لموضوعات العيش العادي. مع الإشارة إلى أنَّ كتابة ساري ذاتها كتابة غير متكلّفة، تلقائية. تأخذ الخيال إلى الواقع، وفي هذا تضادّ ساخر. ينتهي بصورة مُلهِمة، كالشابّ الذي قتل نفسه وهو يحاول أن يدخل شاشة التلفاز. وهو يحاول أن يخرج من الواقع، وينتمي، حتى باعتباره مادّةً، إلى العالَم المتخيّل. 

كذلك، الكاتبة السورية فدوى عبود (1976)، في مجموعتها القصصية "تلّة يسكنها الأعداء" الصادرة عن "خطوط وظلال" العام الماضي، تبني عالَمها الخاص، الذي يكاد يفترق عن الحرب، من غير أن يصير عالماً مُغايراً عنها؛ عدد من قصص المجموعة تقصُّ حياةً تعقب الحرب. أو تقصّ حكاية الموت الذي يعقب الحرب. إذ نرى أرواح المقتولين وأرواح القتلة تتشارك في عالمٍ ما، عالم استدعى البشر أنفسهم إلى الأحلام، إلى الكوابيس. تدلُّنا عبود على مرجعيّة ذلك الانتقال الحُلمي بين العوالم المُختلفة، ونعرف أنَّه ليس افتراقها عن الواقع فقط ما قادها إلى الارتحالات تلك. بل التصاقها بعالَم الكتب جعل الالتباس يداخل وجود الشخصيات وطُرق تفكيرها. شخصياتها تشبه "أليس" التي عبرت المرآة إلى عالم غرائبي. 

لكنه هنا، عالمٌ يكادُ يكون عالمَنا نحن، الذي ابتكر قوانين سَنَّتها الحرب. وابتكر مخاوف أشرعتها الحرب. وبدا أنَّ الشخصيات التي تقصّها عبود لا تعبر المرايا إلى عالم غرائبي؛ بل أسلوبها من الوضوح والقوّة، يبدو معه أنَّ شخصيات كسرتِ الجدران في داخلها، وهامَت في عالمٍ أثيري، هو عالَم مخاوفها من جهة، وذكرياتها ورغباتها التي أودت بها الحرب من جهة ثانية. 

إذاً، في المجموعات الثلاث، بدا أنَّ القصة السورية حاولت أن تخرج من الواقع بمعادلات فنّية جديدة، إما تنفي واقع الحرب، أو تنقل ذلك الواقع إلى فضاءات سردية جديدة. وهي قصة، في عمومها؛ لا تنشغل بالمقولة، بقدر انشغالها بإيجاد حلول سردية للواقع الأليم الذي يشقّ على الكلمات وصفه. ربما ما منح القصة السورية هذه المرونة في التعاطي مع واقع الحرب؛ سمات هذا الفنّ من جانب، باقتضابه وتكثيفه للحدث. ومن جانب آخر، عدم مطالبته بأن يصدّر عناوين كبيرة في السياسة والتحليل الاجتماعي. أمرٌ يسوّغ ما رأيناه من قصص تُشبه الموقف الشخصي. وهو إذ يتبدّى موقفاً شخصياً في جانبٍ منه، إلّا أنَّه موقف يغلّفهُ بعدٌ آخر؛ وهو رفضُ مقولات الحرب، ورفضُ قوانينها، ورفضُ شروط الكتابة فيها. لاءات ثلاث، تسم القصة السورية، وترسم اختلافها.


* روائي من سورية

المساهمون