لِقول ما قَلَّ

03 أكتوبر 2021
(اللعبي في حفل تسلّم "جائزة بنجامين فوندان"، 2011. تصوير: أوليفيا هورفاث)
+ الخط -

مَزيدًا من الأسئلة!

أَسْئِلَةٌ
مَزيدًا من الأسئلة
أسْئِلَةٌ لا تَنْتَهي!
مِنْها الأسئلة الخَرْقاء
والّتي لا يقْوى على الاسْتِهانَةِ بها
كالسؤال الّذي يُلازِمهُ
من فترة قريبة:
ماذا سَيَفْضُلُ مِمّا كَتَبَ
لِنَقُلْ، بعد خمسين عامًا؟
كِتابٌ
صَفْحَة
حِكْمَةٌ
لَفْظٌ من تَوْليده
كَلِمَةٌ تقادَمَتْ
أعاد بَثَّها في اللّغة
فاتَّشَحَتْ فيها
بألوان جديدة
أو ربّما لا شيء
لا شيء بالمرّة؟

هناك بالطّبع تلك الدّائمة:
أسئلةُ الحياة والموْت
والحُبِّ
والإِخاء
والوَفاء
ومعنى المُغامرة الإنسانيَّة
ومَحْدودِيّتِها
وتلك الّتي أجاب عليها
العِلْمُ على نَحْوٍ ما
أو الّتي أَعْلَنَ
أنّها خارج اختصاصه
ثمَّ هناك تلك
الّتي لا يتشاركُها حاليًا
إلّا... مع نفسه
أو يدُسُّها خُلْسَةً
في قصيدةٍ
مُسْدِلًا عليها حِجابًا
شفّافًا بمقدارٍ
تلك الأسئلة الَّتي يَقِف أَمامها
حائرًا
لكثرة ما تبدو له
أَغْرَبَ مِمّا
قد يُدْرِكُه عقلُ إنسان

أَسْئِلَةٌ
مَزيدًا من الأسئلة
مِنْها المُحْبِطَة
ومِنْها المُفْرِحَة
الغريب أنَّ أيًّا مِنْها
لم يُنْهِكْهُ التّداوُلُ
ولا وَجَدَ جوابًا مُفْحِمًا
وبالأَحْرى نهائيًّا
كلُّها ما زالت حاضرةً
عجائزَ وراشداتٍ وشابّاتٍ
بعضُها طُفولِيٌّ
وتَحْتَدِمُ في مِرْجَلٍ
أُعِدَّ لذلك
مَجَرَّةٌ صعبةُ المِراس
أخذَتْ مكانها داخلَ
جُمجُمةِ الشّاعر


■ ■ ■


قَوْلُ ما قَلَّ

لِقَوْلِ "ما قلَّ"
يُنْصَحُ بالعيش "أكثر"
وعَدَمِ الإنتاج
­عدم الكتابة ­
إلّا في حالة الفائض
لكن عندما يكون النّصُّ ناجزًا
يجب إزالة نصف الكلمات
الملوّثة منها
والباهِتة
والجوْفاء
وسَدنة النّصْب والكذب
وقِسْ على ذلك الأفكار
المدّعيّة
والخانقة
والسّوداء بدون قَرار
والورْديّة
بلا طَعْم ولا رائحة
دون نسيان فُلولِ الحَشْو
من نُقَطٍ
وفَواصِلَ
وعَوارِضَ
وأقْواس
ومواضعاتٍ طِباعيَّة أخرى
وحينئذٍ
وهي تتّشح بكامل عُرْيِها تقريبًا
وتُرْبِكُ ببساطتها
ستحْظى
هذه الجوهرة المكْنونة
بفرصة أن تقول "ما قلَّ"
النّفّاذ
الحارِق
المُشِعّ
المُفْحِم
الباتّ
النّادر
اللامُتَوقّع
 

■ ■ ■


مَلاجئ

أخْبارُ اليوم مُرْعِبة
كَأَخْبارِ الأمس
وأَوَّلِ أَمْس
على غِرار المَلاجئ
المُحَصَّنَة ضدّ الطّائرات
المَلاجئ ضدّ الهُجوم النوويّ
يجب أن تكون هناك
مَلاجئُ تَحْمي
من الكوارث والفظاعات
عُدْوانِيّةِ الخِطابات من
الأصوات والصّوَر
مَلاجئ تَحْمي
من الكذب البواح
من الدّناءة والكلام السّاقط
يجب أن تكون هناك
مَلاجئُ تَحْمي 
مِنْ ضروب الكراهية كُلِّها
ومن اليأس
مَلاجئُ آمنةٌ 
على تواضُعها
يَطيب فيها اللّقاء
والرّفقة الطَّيِّبة
لتقاسم لحظة سُكونٍ
وكسرةِ خُبْزٍ وزيتون
إذا البَطْنُ عَوى من جوع
إلى أن ينتهي الكابوس
ويخرج الجميع
لتعود الحياة
إلى سابق عهدها


■ ■ ■


الصَّوْتُ اللَّعين

الصَّوْت اللّعينُ
أَسْمَعُهُ
آتِيًا مِنّي إِليَّ
يقول لي تِلْك الأشياء القاسية
بِتِلْك الكَلمات
الّتي أَقْصَيْتُها مِنْ فَمي

لقد اسْتَنفَدْتُ الأمَل
واليأس لربّما أكثر
العَيْشُ
مع هذا الضَّمير الّذي أَحْمِلُه
يُؤلِمُني

ما إِنْ أَغْفو
أَجِدُ نَفْسي
في قاعة التّعذيب إيّاها
وجَلّادِيَّ
تارَةً غُرَباءُ
تارَةً أَقْرِباء

وحشٌ بَشِع
يسْحَبُني من قدميَّ
ويأْخُذني
صَوْبَ اللّيل
المجهول

في كلّ مرحلة من حياتي
اسْتَعْجَلْتُ المُرور
إلى المرحلة اللّاحقة
فلا مَجال الآن
لِخَرْق
القاعِدَة 

كَمْ وَدِدْتُ
لَوْ تكون لي مَلاذات المُؤْمِنِ
وملاجِئُه:
الدَّيْر
الكَهْف
لِأُسْتَغْرِقَ الفِراق
وأَنْسى أنّه كان لي
اسْمٌ ولَقَبٌ
سَلَفٌ وخَلَفٌ
وأَنّي عِشْتُ
في حقبة قَذِرَةٍ بِعَيْنِها
أَفْتَرِشُ الأرض
كما في "الزّمن الذائع الصّيْت"
زمن السّجن
وأن أُجْبِرَ نفسي على الصّمت
إلى نهاية
أجَلي!

الصّوْتُ اللّعين
لا خِيارَ لي
سِوى أن أُصْغِي إليه
وإيلامُهُ
يُريحُني
لم أَعُدْ أحتاج أن أَنْظُر
إلى وجهي في أَيّ مرآة
فهاوِياتي
الّتي تَفَحَّصْتُها
أَنْظَفُ
وأَكثَرُ وفاءً

على الشّاعر أَنْ يموت يافِعًا
وإلّا...


■ ■ ■


سِيزِيف مَبْهوتًا

إنّه نَبْعٌ
انْبَجَسَ في كَوْكَبٍ
بمَجَرّةٍ بعيدة
وفي الحُلُمِ
يُطْفئ ظَمَأ العَطْشى

إنّها امرأةٌ
روحٌ صِرْفة
على صِفَةِ العين المُجرَّدة
مَرْسومةً
وسَط الكَفّ

إنّها حبّة رَمْلٍ
بها مسٌّ من الحياة
تُزاوِلُ أحلام
ما قبْل الوَعْيِ

إنّها ثَمَرةٌ
من نسج خَيالِ الشّجرة
الّذي لا يَنْضُب

إنّه إلَهٌ
صالحٌ للأكل
في زمن الحرب
والمَجاعَة

إنّها حِصّة الفقير
والغائب
والتّائه
والمنْبوذ

إنّه انتظارٌ
بِلا نافذةٍ
بِلا نجمةٍ بين العينين
بدون غليون الرّسّام 
الّذي هو ليس بغليون 

إنّه الدَّرْبُ
المفقودُ
المُستَعادُ
المفقودُ من جديد
الوهْمُ التّامّ
والمُشْتَهى بِحَمِية

إنّه الكِتاب
المُدْرَكُ في أدقِّ تفاصيلِه
والّذي لن يَنْكَتِبَ
أبدًا

إنّه البورتريه
مِنْ بِضْع قَسَماتٍ
مُلامِسًا الجوْهر

إنّه الأبيضُ
دون زيادةٍ
لأيّ لونٍ آخرَ
يُضاهي الأسْوَدَ فَصاحةً

إنّه الدّم
قُزُحِيًّا
يتدفّق من الأوْرِدة
يَمْلأ النّصْفَ الفارغ
مِن الكلمات

إنّها الشّجرة الأولى
المَلْأى طيورًا تُصَلّي
وهي تَنْمُو
مَحَلَّ السُّرَّة

إنه بَيْتٌ مَهْجورٌ
طَوْطَمٌ عارٍ
تُهَدْهِدُهُ الأمواج
وتَحُفُّ رأسه
 هالةٌ من نُجوم

إنه قبرٌ
بمَنْأى عن البلاد
والأهْواء
ثُقْبٌ إضافيٌّ
في مِطْفَحَةِ الذّاكرة
نِكايةً
بِآكِلي الجِيَف

إنّه ذاك الذي
لم يَعُدْ يَجْرُؤ على الكلام
خِشْيَةَ أن يُصبح
مَدْعاةً للشَّفقة

إنّها تلك التي تُضاهي النّافورة
الّتي ينْبجِسُ منها الضوء
وكذا المَوْجة
الّتي تنشُر
سُلطان الظّلام

إنّنا نحن
الّذين نتواجدُ
وسط مَخاضَة النّهر
مرارًا وتكرارًا!

إنه سيزيف مَبْهُوتًا
يرى الصّخرة
تنفلت من بين يديه
وتطير في الهواء

إنّها ليلةُ أَرَقٍ أخرى
ساحةُ معركةٍ
أَضْحَتْ مألوفةً
وحيث الرّغبة في الانتصار
ليست أكثر ولا أقلّ اضْطِرامًا
من الرّغبة
في الانهزام

إنّها نُتْفَةٌ
تُضاف للنُّتَفِ الأخرى
خُدْعَةٌ
في أحسن الأحوال
لِإِرْباكِ
وحْشِ اليَأس


* ترجمة عن الفرنسية: محمد خماسي


مواجهة الذات دائماً

يبدو أحدث إصدارات عبد اللطيف اللعبي (فاس، 1942)، "لا شيء تقريباً"، الذي تُرجمت منه هذه القصائد، استمراراً لنهج مواجهة الذات. مواجهة يعود فيها الشاعر المغربي إلى ماضيه ويُسائل حاضره ومستقبله. صدر الديوان (وهو التاسع عشر في مسيرته) مطلع العام بالفرنسية، ونال عنه اللعبي "جائزة روجيه كووالسكي" للشعر، التي تمنحها مدينة ليون الفرنسية، والتي تحمل أيضاً اسم "جائزة الشعر الكبرى لمدينة ليون".

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون