ليل في العزل

04 ابريل 2021
إيتل عدنان/ لبنان
+ الخط -

أستيقظ، أقول هذا لأنه أول ما يخطر لي، فأنا لست متأكداً من أنني خرجت من النوم. لست متأكداً إلا أن هذه السحابة التي أخذتني والتي أحسب أنها رمتني إلى هذا السرير، لا يمكن أن تكون شيئاً آخر، إنها ما ألفنا تسميته نوماً. لكن ما حدث الآن ليس انتقالاً في الزمن، ليس بين حالتين أو وقتين، لذا لا أجازف بأن أفتح عينيّ. أبقى كما أنا في سريري، وأترك الزمن ذاته، ثانية فثانية ثم دقيقة فدقيقة، يجري تحت جفوني. الزمن، هذه اللحظة، هو موضوعي، إنني أتمدّد فيه، أؤلّفه أو أتركه يتألف.

ليس سواه ما أتقلب فيه وأنا لا أزال في سريري، ليس سواه ما يتقلب معي على وسادتي. لقد استيقظت بالتأكيد، هذا ما صار في وسعي أن أتيقن منه. أنا الآن واثق من أنني في حال لا تكون إلا بعد النوم، إن لم أكن متأكداً من نومي الذي لا أعرف كيف حدث، لم أشعر به يقترب مني، لم أحس به يتغلغل أكثر فأكثر فيّ. لم تنكسر جفوني، لم يرقّ جسدي، لم يخالطني ما نسميه نعاساً.

إن كان هذا هو النوم الذي دهمني، إن كان هذا النوم الذي خرجت منه فقد تم كميعاد لا يمكن الانفلات منه، ثم كفصل من فصول الجسد التي لا بد منها. منذ خرجت من عام من المستشفى التي منعوا عني فيها مهدئات اعتبروا أنها تضرني، وما تركوه لي منها لم يكن يكفي لينقلني إلى النعاس، أو يحملني إلى النوم. كنت أحصي ليلي، وأتركه يتواصل حولي، لأتيقن أنه يأخذني إلى النوم، وكأنه ليس في حسابي أو أنه يحدث سرّاً وخفية عني. كنت في المستشفى وجرّاء عملية جراحية لم تحصل كما قدّر الجراح لها، اضطررت إلى أن أمضي شهرين بعدها في سريري. شهرين أمضيتهما غائباً عمّا يجري في الخارج، غائباً عمّا يجري لي.

الآن لا أعرف إذا كنت أنام أو لا أنام. الآن، ومنذ ذلك الوقت، فقدت هذا الحساب للوقت، وهذا الفصل بين الأوقات. صار الوقت تقريباً واحداً لي. عدت إلى البيت وبدأ الوباء يصل شيئاً فشيئاً إلى الجو، صار الوباء هو الخارج وهو الداخل. إنه ما يحدث بنا لكنه أيضاً ما يعاشرنا وما يكاد يكون أنفاسنا وجسدنا، لكنه أيضاً الوقت. الوقت الذي يقاسمنا ما نفعله نهارنا أو ليلنا، إنه شريك لنا فيه.

أقرأ لأن الكلمات والصور والاستعارات هروب من الوباء

في سريري، حين يتراءى لي أنني استيقظت وأنا أتقلب من ناحية إلى ناحية، أشعر أنه، بطريقة ما، معي، إنه هو الذي ينظم جريان الوقت من دقيقة إلى دقيقة، هو ما يبقى، على نحو ما، تحت أجفاني. ما أفعله أثناء ذلك ليس بعيداً عنه، إنني في عزلة عنه، ولكني لذلك بالضبط تحته وفي ظله. لست هنا إلا لأنه هناك، تحت الشرفة وحول المنزل، لكنه أيضاً ما بعد الشرفة وما حول الغرفة وما حول السرير أيضاً. إنه هنا معي في منامي ورقدتي، إنه أيضاً تحت أجفاني لكنه أيضاً تحت أفكاري، وحين أفتح أخيراً عيني لن يغادرني.

حين أذهب إلى الغرفة الأُخرى لآكل سيكون أيضاً تحت لساني، وسيكون في رشفة الشاي وسأسمع صوته تحتها. سيكون على شاشة التلفزيون تحت الأخبار، الأخبار التي جميعها تقع حوله وفي ظلّه. أعرف أن رئيساً خرج ورئيساً أتى، أن انفجارا حدث في ساحة، أن حرباً ما على الحدود، أسمع أن ثمة خلافاً بين زعيمين أو ثلاثة، كل هذا لا يحدث في أي وقت ولا في أي ساحة ولا في أي دولة، إنه يقع في وقته، يقع في مساحته وفي دولته وفي سلطانه.

نقول إنها السياسة ونقول إنه التاريخ ونقول إنها الأنظمة ونقول إنها الدول، لكننا، مع ذلك، نعرف أن السياسة لا تفعل شيئاً سوى أن تؤكد نفسها في حضوره. الساحات تحاول أن تكون هي لكنها، مع ذلك، موجودة وراءه وأمامه، ولن تكون إلا بالنظر إليه وحياله. التاريخ يُصنع هذه المرة تحت وطأته. الزمن محصي به، إنه عدده وهو أيضاً فصوله ومراحله.

أفكر أنني أقرأ، لا لشغف لا يزال يراودني ولا لاغتناء داخلي، أقرأ لأن الكلمات والصور والاستعارات هروب منه. أهرب وأنا مع ذلك أشعر أنه لا يزال يخيم عليّ، إنه على بعد، يتأملني ويسوس قراءتي. الكلمات نفسها، عن قصد أو غير قصد تعيده. الصور والأفكار والمشاعر، جميعها تحمل صدى منه، صدى بعيداً ونائياً، لكن هذا البعد وذلك النأي هما جوّه وهما رسائله. أقرأ، لنقل إنها رواية، ولكني وأنا أقرأ أقع عليه، تحت كلمة أو في عبارة، أقع عليه يحدق بي، وأقول إني هارب إلى غرفتي، أقول إن العالم موبوء وإنني أيضاً موبوء وإنه زمن الوباء وتاريخ الوباء.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون