ليتنا كنّا حجارة البيوت

08 مايو 2024
سمير سلامة / فلسطين
+ الخط -
اظهر الملخص
- الشاعر يستخدم الشعر لاستكشاف الذات والعالم، متنقلاً بين ذكريات وأحاسيس متباينة، ويعبر عن البحث عن الهوية والمعنى في ظل تحديات الحياة.
- يتعمق في مشاعر الفقد والندم، معبرًا عن الرغبة في التحرر من الماضي والألم من خلال صور مجازية كقص الورق الميت ومحو القصائد القديمة.
- يختتم بتأمل في مفهوم الإنجاز والخلق، مؤكدًا على الدور الأساسي للشاعر في تفسير وإعادة تشكيل العالم من خلال الكلمات، مقدمًا تجربة غنية بالمعاني والصور البلاغية.

برندا

هناك على شرفة في الذاكرة
رجلٌ يقصُّ الورقَ الميّتَ من زَرِيعته
لا تعرفُ الشُرفةُ أنّها خيالٌ
ولا الرجلُ أنّه لحظة

ولكنّ الزرِيعةَ
تُدرِكُ أنّها ميّتةٌ
منذ زمنٍ مديد.


■ ■ ■


كَنَبَةٌ حمراءُ في داريّا

1

اشتريت ممحاةً، وبدأت منذ يومْ
أمحو كلَّ ما كتبتُ من قبل

واشتريتُ مقصّاً كبيراً، وبدأتُ بقصّ
حِبالِ غسيلِ القصائد القديمةْ

توَسّلتُ لشَجرةٍ شَاحبةٍ
حفرتُ عليها حلمي:
هل تعطيني الإذنَ بأنْ أقطعكِ؟
تعالي واحترقي مع باقي أوراقي /أبنائِكِ

أعانقُ الهواءَ كلَّ يوم
أختفي، أودّ لو
أتحوّل إلى شريط مغنيزيوم
يصبحُ مَحضَ نُثارٍ أبيض بعد عناقِ الهواءْ..

ها أنا الآنَ..
تدهسني مدينتي بالآخرين..
دهستني دمشقُ دائماً؛
لأنّني منها يدهسني الآخرون..


2

ها أنا تمرُّ بيَ الغرفةُ، تِلْوَ الغرفةِ، تِلْوَ الغربةِ
وعيونٌ شتّى تأكل أفكاري
أيخافُ الناس من الأفكار؟

من رجلٍ يغطّي عيونَه الحالمة؟
ويخرج في الهواء كي يحترق؟

للخوفِ مخالبُ
للحزنِ مخالبُ أيضاً
وأنا لا ينهشنُي الخوفُ ولا يضنيني الحزنُ
ولكنْ تأكلُني لغةٌ تظلِمُني

الآن أعاقبُ نفسي لأسامحَها
أمحوها من هذا الشارع
حرفاً فحرفاً
لأعود إلى حيثُ بدأتُ..
إلى تلكَ الكَنَبَة.


■ ■ ■


مَدينَةٌ لنا مَدينَة

1

أعرفُ أنّ النصوصَ التي أكتبُها كي تُنقذَني
نصوصٌ سيّئة
كما تعرفُ المياهُ أنَّ الكؤوسَ التي تسحبُها
من البحرِ، كؤوسٌ سيّئة

أعرفُ أنَّ الحروفَ تصيرُ فُتاتاً أمامَ
ضجيجِ الكَرْنَفال
كما يصيرُ الصهيلُ هزيلاً
أمام الوغى

أعرفُ أنّ صوتيَ الذي يستنجدُ الفراغَ
سيقتلني لو قلتُ الحقيقةَ
كما تعرفُ الحمامةُ أنَّ الغُصنَ الأخضرَ الناعمَ 
سيُسقِطُها إلى الأرض إنْ وقفَتْ عليه


2

أعرفُ أنّ الذين أرادوا الشّراب، استفاقوا
وأن الذين أرادوا القصيدة
اغتَنَوا باللغاتِ الجديدةْ
وأنّ المدينةَ صارت مدينةً
لنا بالحزنِ والذّلِ الزُلال..

ولكنَّ نملاً كثيراً
يدورُ بكلّ انتظامٍ، وكلّ انهماكٍ أمامي
ويمتدّ نحوي،
ويعلو فأدنو
وأذكرُ
أنّني.. 


■ ■ ■


زيتٌ وماء

الكلُّ يبكي ويكتبْ..
كزيتٍ وماء.. في إناء..
يا لبؤس الكاتبين، يا لبؤس الباكين.

الكلّ يبكي ويكتب
وأنا أريد أحدَ الأمرين، ويستعصي..

يا لقسوةِ النهار، راكضاً على رؤوسنا المهشّمة
يا لقسوةِ الشارع، عازماً على التهام ما تبقّى من حذاء السائرين السائلين

يا لقسوةِ البيوت الجديدة، تُمسكُنا فوق الأسِرَّةِ وحدَنا
وتُقلِّبُنَا
كقشور البرتقال على حطَبِ القُرى...
ولا شيء إلّا أريجُ الأسى

يا لقسوةِ الرفاق، يجرّون أحزانَنَا معَهم إلى الحياةْ
ونحن نريدُ المكوثَ في العْجزِ، نريدُ التوقّفْ
يا لقسوة الحبّ، يُجبرُنا على اجترارِ كلِّ قسوةٍ في سبيلِه


■ ■ ■


حقائب

هناك حقائبُ شتّى 
في كلِّ مكانْ
حقيبةُ طفلٍ فيها
علبةُ ألوانٍ خشبيّة.
حقيبةُ رجلٍ فيها مسدّسٌ فضيّْ.
حقيبةٌ فيها تضعُ المرأةُ
عمراً كاملاً

وهناك حقيبةُ سفرٍ يضعُ الرجلُ عليها حقائبَ أُخرى
هناك حقيبةُ هاتفٍ
وحقيبةُ دارسٍ
وحقيبةُ فارسٍ
هناك حقيبةُ ساعي بريد الأرضِ
وهناك حقيبةُ شرطيِّ المجرمِ
وحقيبةُ مسؤولِ الحقائبِ الدوليِّ
وحقيبة شحاذ منسيّ
على الجسر
هناك هناك

حقائبُ شتّى
كبرى صغرى
حقائبُ جلدِ الأفعى
حقائب ناسٍ تسعى
وحقائب ناسٍ تنسى
وحقائبُ أمي

هناك حقائب للتاريخ
وحقائب للمستقبل
توضع فيها
عملاتٌ رقميّة

لكنْ
يا مَنْ تترجم هذي القصيدةَ القصيرة
هُناك..
هل تفهمَ أبداً معنى
أن يصير المرء حقيبة؟

■ ■ ■


البيوت زُلزِلَتْ

اسمعوا صمتَ النجاةْ..
ذا لحمُنا يَئنّ..
سيخرجُ مرةً أُخرى،
ويَدمَلُ مرّة أخرى 
وينسج نفسَه من نفسه
ويَبْرَأ من المَصيدة 

يا ليتنا كنّا حجارة البيوت
لا نَخون أهلنا..
يا ليتنا الحجارة
نهوي على الطريق بينَنا
لنقتلَه..

ذا بيتُنا يئنُّ
اسمعوا
لحمَنا.. في المصيدة
اسمعوا
لحمَنا
في 
المصيدة.


■ ■ ■


الإنجاز

كم شاعراً يحتاجُ أن يصبح الشاعرُ ليصبح شاعراً؟
كم صورةً تتوالدُ عن نفسِها كي تخلقَ صورةً مفردة؟
كم مرّةً يكتبُ الشاعرُ نصّاً جيّداً؟
كم مرّة يكتب الشاعرُ نصّاً؟
كم مرّةً يكتب الشاعرُ؟ 
كم مرةً؟
قبل أن يموت على شكل مفردة

صارتْ لغةُ الشاعرِ؛ صارَ الشاعرُ؛
والطبيعةُ ليسَ يزعجُها التغيّرُ
بل تثورُ/ تصيرُ
وكلّ هذا الكونِ
محضُ قصيدةٍ صارتْ تصيرْ
 
لغةٌ تصيدُ العالَمَ المرميَّ في ذهنِ ابنِ آدم
في الباصِ
في الساحاتِ
في صَخَبِ القطارِ

الآنَ
تكتبُ الشعراءُ، تنجزُ نفسَها
الآن أعني دائماً
أعني غداً
في الأمس
أعني كلّ وقتٍ

تكتبُ الشعراءُ، تنجزُ نفسها
كما تنجزُ الأشجار نفسها
كما تنجزُ المياه نفسها
كما تنجزُ العطور نفسها

وزجاجةُ العطرِ قد تنتهي
فعلاً
ولكنْ..


* شاعر وباحث سوري من مواليد دمشق عام 1992، حاصل على درجة الماجستير في الأدب المقارن من "معهد الدوحة". صدرت له مجموعة شعرية بعنوان "إنتروبيّة شعرية" في كوالالمبور بماليزيا عام 2019، وشارك في مجموعة قصصيّة بعنوان "The lockdown Chronicles" عام 2020. القصائد المنشورة هنا من مجموعة شعرية تصدر هذه الأيام عن "دار مرفأ" في بيروت، بعنوان "مدينة مدينة حفرة في رأس". 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون