لميس الزين: في "الفناء الخلفي" للحرب

03 سبتمبر 2022
عائلة في فناء بيتها المدمّر في حلب، 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 (Getty)
+ الخط -

رواية الكاتبة السورية لميس الزين "الفناء الخلفي" حديث عن شتات العائلة السورية، وهو شتات ينطوي على غياب المستقبل واغتيال الماضي. إذ تقتصر الرواية - الصادرة حديثاً عن "دار رياض الرَيّس" - على سرد اللحظة المشتعلة، وتدور شخصيّاتها في فضاءٍ أعزل، هائمة بفعل خسارة حلب وخسارة العائلة. إنّها رواية عن الحرب إذاً، حيثُ كُلّ شيء معرَّض للتفكُّك والانتهاء، كما لو أنّ البشر منذ البداية مجرَّد عابرين، أو محض غبارٍ يظلّل الأمكنة في ذاكرة الحرب.

تنتمي رواية الزين إلى نمط من الكتابة ساد عَقب عام 2011. آنذاك تنادى الكثير من الروائيّين لكتابة شهاداتهم الخاصّة عن الحدث، وهي كتابة في حينها كانت تشبه تعلّم النطق بما فيه من ارتباك وبراءة. تتحدّث الرواية عن سنوات الحدث السوري الأُولى في حلب، ويَحضُر في خلفية الأحداث الشقاق بين انتماءي حلب، للريف والمدينة، وهو أحد أنواع الشقاق المتنوّع بتنوّع المدن السورية. نجد في الرواية شخصيات من منشأ فلاحيّ، وأُخرى تمثّل طبقة بعينها من التُّجّار، والنص سجالٌ بينهما، ولو أنّ الزمن السوري جار على الجميع بالدرجة ذاتها من العنف.

تدور أحداث الرواية خلال سنوات الاقتتال الأهلي، وهي بذلك رواية عن العنف بصورهِ الشتّى؛ عنفُ الانتماء وعنف تمزيقه. عنف الرغبة وكبتها، أو تحقّقها والاستجابة لها. في الحرب تنشأ العلاقات بين الناس والأمكنة، وبين الناس أنفسهم في أُطر مُهدَّدة، كلّ شيء معرّض لأن يتفتّت. الحجر والبشر تحت التهديد عينهِ، والصلات التي تربط الناس بعضهم ببعض معرّضة لأن تنقلب جذريّاً من أقصى درجات الحبّ إلى أقصى مرتبات الكراهية والقطيعة. 

تنهار العلاقات القديمة تحت قصف القذائف ودعوات الموت

تنهار العلاقات القديمة تحت القذائف والقصف والدعوات إلى الجيش أو إلى السجون. وكأنّهما المصير نفسه، مصير الغياب القسري في بلدٍ يقهر مواطنيه. وكانت حلب من المدن التي عرفت انقساماً شهيراً في الحروب الأهلية بين شرقية وغربية، بعد توزّعها إلى معسكرين. كما تظهر السياسة في رواية الزين نوعاً من الشرك الذي يهابهُ الناس العاديّون. روايتها في النهاية، عن أُناسٍ عاديّين وجدوا أنفسهم فجأة مضطرين إلى أن يبذلوا أقصى ما لديهم، كي يستطيعوا النجاة. فيما بقيت الشخصيات الانتهازية التي استغلّت فوضى الحرب وفسادها، شخصيات هامشية.

إذ تُبقي الزين متن روايتها مُلك شخصيات لا تريد سِوى النجاة. وهم السواد الأعظم من أهل بلدها الذين تصوّرهم الكاتبة فئة مخدوعة، مضطرة إلى أن تبيع كلّ ما لديها، حتّى القناعات، كي تُحصِّل شيئاً ولو يسيراً من الممكن. فأبسط الحقوق تكاد تلامس المستحيل. ومن جرّاء ذلك، كانت الشخصيات تتسامى أو تنحدر، والنص بخياراته كافةً يمضي في اتجاهين متناقضين، صنْوَ الحياة. 

تصدر رواية "الفناء الخلفي" بعد أحد عشر عاماً من الحدث، والقارئ يجد نفسه أعزلَ بحضور مفردات الحرب. كما لا تتركُ الكاتبة لشخصيّاتها الكثير كي تدافع عنه، فهي شخصيات صنعها صراع الرغبات، مدفوعة بشعور اقتراب النهاية، نهاية الحياة، لا نهاية الحرب. على هذا النحو، يتوارى الخوف وراء اندفاع الشخصيات للعيش بنمط مختلف، ما يتمّ على حساب العائلة المتزمّتة بالنسبة إلى الشاب سامي بارتباطه مع شمس. وهما شخصيتا الرواية الرئيسيتان، كلاهما خاضَ تجربته قبل أن يصل إلى الآخر. خرج سامي عن إرادة عائلته التي تفصل ذكورها عن إناثها، بينما وجدت شمس فيهِ عائلتها المرجوّة. ثمّ لا تلبث الحرب أن تتعقّب الهناء في فنائها الخلفي، كما لو أنّ الكاتبة تودّ إخبارنا عن سراب السعادة في أزمنة القتل وهي تقصّ حكاية واحاتٍ تخرج من ذاكرة الطفولة، ومن ثمّ تعود إليها، من غير أن تجد مكاناً في الحاضر. 

الفناء الخلفي

بل أكثر من ذلك تبدو الشخصيات وكأنّ بلدها قد نسيها، وكلّ ما يحدث معهما، يحدث في مكان مقتلَع من سياقهِ. فما يحدث أساساً يجري في لحظة طارئة هي الحرب، حيثُ العلاقات بمعظمها زائفة، والحقيقي منها سريع العطب. حتّى الصلة التي تجمع الآباء بالأبناء لم تنجُ من التفتيت، ولو أنّ الكاتبة جعلت الخروج عن العائلة دلالة على الثورة. لكن خيطاً متيناً بقي يربط سامي بعائلته. صحيح أنّه تزوّج بشمس التي تكبره بأربعة عشر عاماً ومن غير انتظار موافقة عائلته، إلا أنّ حياته مع زوجته كانت مسروقة ومتوارية، قبل أن يخرج بمفرده إلى ألمانيا. 

في فضاء الحرب ووسط مستحيلات كالشعور بالسلام والحبّ، تمتلئ الرواية بالمقولات الإنسانيّة التي ترأف بالشخصيات، وبضعفها وقلّة حيلتها أمام القسوة التي شكّلت القيم الاجتماعية. إذ لا ننسى أنّ الحرب تدور في ثقافة تُقيّد أبناءها بالموروث والعادات، وهي شخصيات تخرج من مجتمع يغلق أمام أبنائه فضاءات الحريّة الفرديّة، بدءاً من اللباس إلى الحديث والعلاقة مع الآخر. إنّه منذ البداية مجتمع مأزوم ومغلق، إلى درجة يبدو معها أنّ الحرب جاءت كي تفجّره من الداخل. لكن في لحظة العنف القوية التي ترصدها الرواية، بدا أنّ الحرب تفتّتهُ من غير أن تعيد تشكيل علاقاته مجدّداً.


* روائي من سورية

المساهمون