قبل أسابيع، أرسل لي أكثرُ من صديق مقالاً للكاتب عزت قمحاوي بعنوان "أن تقرأ إسماعيل كاداريه في زمن السوق: آخر الكلاسيكيّين الكبار لم يزل قادراً على إثارة الدهشة"، نشرته جريدة "الشرق الأوسط" في صفحتها الثقافية. وكان ممّا كتبتُه في الردّ عليهم - باعتباري كنتُ قد أصدرت في 2008 كتاباً بعنوان "إسماعيل كاداريه بين الأدب والسياسة" توقَّعتُ فيه أنّ كاداريه لا يمكن أن يفوز بـ "جائزة نوبل للأدب" بسبب مكانته في النظام الشمولي السابق في ألبانيا - أنّ كاداريه كاتب قدير من دون شكّ، ولكنّ النظرة إليه في الداخل الألباني تختلف من الجنوب إلى الشمال، ومن اليمين إلى اليسار، بحُكم تداخُل الأيديولوجيا مع الجغرافيا الألبانية.
وفي هذا السياق، لا يمرّ شهرٌ من دون الكشف عن جديدٍ في الوثائق في علاقة كاداريه برأس النظام الشمولي أنور خوجا وزوجته نجمية التي كانت رئيسة "الجبهة الديموقراطية" (الواجهة الشكلية للنظام الحاكم)، بينما كان كاداريه نائبها في أسوأ سنوات ألبانيا، عندما كانت "القلعةَ الستالينية الأخيرة في أوروبا" أو "الغولاغ الحقيقي".
في هذه المرة، دخل على الخطّ الكاتبُ والسياسي الألباني المعروف بن بلوشي (1969) الذي التقى مع كاداريه لأول مرة في تشرين الأول/أكتوبر 2022، بناءً على إلحاح من صديقة مشتركة (ألدا بارذيلي)، وفوجئ بن بلوشي بما انتهى إليه كاداريه من استرسال في أمور لم يتطرّق إليها من قبل، فنشر الحديثَ ضمن كتابه "41 سرّاً" في نهاية 2022، واهتمّت الصحف بما ورد فيه عن كاداريه، ممّا أثار ابنته الكبرى بسيانا كاداريه، التي انتقدت بحدّة الروائي بن بلوشي بسبب ما نشره عن والدها "دون إذنه"، وردّ عليها بشكل لاذع، من دون أن يسمّيها باسمها، بل "ابنة إسماعيل كاداريه"، على اعتبار أن "كلّ فتاة بأبيها معجبة".
بن بلوشي المعتدّ بنفسه مع كاداريه
يمثّل الروائي بن بلوشي جيل ما بعد كاداريه في ألبانيا؛ حيث تتجاوز مبيعات مؤلّفاته ما يصدر لكاداريه، الذي لم يعد ينشر جديداً في السنوات الأخيرة، كما أن الجيل الشاب في ألبانيا أقلُّ اهتماماً به. ولذلك نجد أن ناشره "أونوفري" يتوجّه لاستقطاب الجيل الجديد الذي ترُوج مؤلّفاته؛ فقد برز أوّلاً كصحافي وسياسي بعد انضمامه في 1998 إلى "الحزب الاشتراكي" (الحزب الشيوعي بعد "إصلاحه")؛ حيث أصبح نائباً لوزير الخارجية في 1999، ووزيراً للتعليم والفنون في 2001، بعد أن نجح في الانتخابات البرلمانية، وبقي قطباً برلمانياً إلى أن أسّس حزبه الخاص "ليبرا" في 2016.
في غضون ذلك، برز كروائي بقوّة بعدما نشر عام 2008 "أن تعيش في جزيرة" التي تناولت الحكم العثماني في ألبانيا وانتشار الإسلام فيها بشكل مخالف لسردية الغالبية المسلمة، وأصدر عام 2009 "عُطيل أو عربي مدينة فلورا" التي نال عنها "جائزة الاتحاد الأوروبي للأدب"، ثم "ألبانيا" في 2011، و"المرشّح" في 2015، و"رئيس الوزراء" في 2016 وغيرها.
يكتب بن بلوشي أنّ تقديره لكاداريه هبط بعد أن تعرّف إليه
ولذلك يبدأ بن بلوشي سرديته عن كاداريه باعتداد واضح؛ إذ يعترف أنّه لم يلتق كاداريه حتى تشرين الأول/أكتوبر 2022، وأنه لم يسع إلى ذلك ولم يقرأ كلّ مؤلّفاته، بل إنّ صديقةً مشتركة لهما سعت لجمعهما حول فنجان قهوة، فاعتذر لارتباطه بالتزام، ثم عاودت الصديقة المقرّبة من كاداريه المحاولة، فوافق على مضض على إلغاء موعد له لكي "يشرب فنجان قهوة" مع كاداريه، وهو تعبيرٌ ألباني لا يَقصد شرب القهوة، بل التعرّف والحديث. ففي هذا اللقاء طلب كاداريه القهوة، بينما اكتفى بن بلوشي بطلب زجاجة من الماء.
ومع هذا الاعتداد، يعترف بن بلوشي أنّ تقديره لكاداريه هبط درجةً واحدة، بعد أن تعرّف على كاداريه مختلفٍ عمّا كانت الصورة عنه. كان بن بلوشي يجامل الصديقة المشتركة بلقاء كاداريه، ولكنّ ما رآه وسمعه حرّضه على أن يستعيد لاحقاً ما دار في اللقاء، وأن يضمّه إلى كتابٍ له كان مُعَدّاً للنشر ليصدر الآن بعنوان "41 سرّاً"، أي أن كاداريه كان السرّ رقم 41. ويضمّ هذا الكتاب شخصيات معروفة وغير معروفة في ألبانيا، ولكن لكلّ واحد سردية مثيرة تجعل من السهل للقارئ غير الألباني أن يفهم المجتمعَ الألباني.
في البداية، يعترف بن بلوشي أنّ ما سمعه من أصدقائه عن كاداريه كان متنوّعاً، ولكنّه لم يُثر اهتمامه لكي يلتقي به، إذ كان له "رأيه الخاص به" الذي كان كافياً له. ولكن مع الحديث العفوي الذي انساب بينهما، كان بلوشي في الموقع القويّ الذي يثير القضايا حول الكتابة والوحدة والعلاقة مع المرأة والعلاقة مع الناس والخوف من الموت وغيرها، بعد أن شاع أنّ كاداريه بدأ يفقد تركيزه وينسى من يعرفهم، حتى أنّه كرّر عدّة مرّات، خلال "شرب القهوة"، سؤاله للصديقة المشتركة ألدا: "هل أنت متزوّجة؟".
يعتقد كاداريه أنّ إسماعيل اسمٌ يوحي بالرطوبة
من المهمّ هنا اعتراف كاداريه أنّه لم يعد يكتب، ولم يعد يقرأ، ولم يعد يستطيع أن يرى فيلماً إلى نهايته، وبالوحدة التي يعيشها وغير ذلك، إلى أن وصل الحديث إلى الخوف من الموت. فعندما سأله بن بلوشي: "هل تخاف من الموت؟"، أجاب: "ليس لديّ خوف. أريد أن أعيش حتى التسعين، وبعدها يمكن أن أموت". ولكنّ الصديقة المشتركة كانت تتدخّل من حين إلى آخر وتُحرج كاداريه؛ إذ قالت: "لديك بعض الخوف من الموت. لقد قلتَ لي ذلك".
مع استمرار الحديث بين الروائيَّين، يبدو الفرق بينهما لصالح بن بلوشي. فعندما استذكر بن بلوشي ميلان كونديرا، سأله كاداريه: "هل كونديرا حيّ؟". وعندما سأله بن بلوشي: "هل تُحبّ الرياضة"، أجابه كاداريه: "أحبّ الملاكمة". وعندما سأله عن السبب، قال كاداريه: "تعجبني وحدة الملاكمِين، كيف يتصرّفون عندما يخسرون". وهنا ردّ بن بلوشي: "ربما ذلك بتأثير جاك لندن.. الذي كتب كثيراً عن الملاكمِين عندما يخسرون". ولكنّ كاداريه اعترف أنّه لم يقرأ ما كتبه جاك لندن.
لا إسماعيل ولا رجب
يستمرّ الحوار بقيادة بن بلوشي المعتدّ بنفسه، إلى أن يُعبّر كاداريه عن إعجابه باسم بن بلوشي. وهنا يسأله هذا: "ألا يعجبك اسم إسماعيل؟"، ليجيب فوراً: "أبداً، يبدو اسماً يوحي بالرطوبة". وعندما سأله كاداريه: "كيف يبدو لك اسمي؟"، أجابه بن بلوشي: "يبدو لي كأنّه اسم تاجر عربي!". سأله بن بلوشي: "ما هو الاسم الذي ترغب به؟"، فردّ كاداريه "لا أعرف". وهنا عرض عليه بن بلوشي عدّة أسماء: "هل يعجبك رمضان؟ هل يعجبك رجب؟ في العثمانية يعني حزيران، أي أنّه اسم جافّ لن تشعر معه بالبرد".
ومع رفض كاداريه لكلّ هذه الأسماء، تتدخّل الصديقة المشتركة لتكشف أنّ كاداريه يحب اسم روديان، وأنّه هو شخصية كاداريه في روايته "الظلّ"، أي أنّه "الاسم الذي أعطاه كاداريه لنفسه في الأدب". ولكن بن بلوشي يعترف ببساطة أنّه لم يقرأ هذه الرواية. لقد جاء هذا الاعتراف بكره كاداريه لاسمه "العربي"، إسماعيل، ليُفسّر لماذا تصدُر رواياته في الألبانية لدى الناشر الذي يحتكر إنتاجه (أونوفري) باسم كاداريه فقط، وليس باسمه الكامل.
جاء نشر هذا الكتاب عشية احتفال كاداريه بعيد ميلاده الـسابع والثمانين (وُلد في 28 كانون الأوّل/يناير 1936) ليُقدّم صورةً غير مألوفة، أو محرجة عنه. ولذلك انبرت ابنتُه الكبرى بسيانا، في كانون الأوّل/الماضي، إلى نشر نقدٍ عنيف لبن بلوشي بسبب نشره ما دار في الحديث بينهما "بدون موافقة" والدها.
وقد ردّ بن بلوشي بنقدٍ أقسى، أوضح فيه أنّه لم يكن يرغب أصلاً بلقاء كاداريه، ولم يكن يفكّر بنشر الحديث، ولكن بعد أن جرى هذا اللقاء ببادرة من صديقة مشتركة وسمع ما سمعه، رأى أنّ من المناسب أن يضمّه فورا إلى كتابه الذي كان مُعَدّاً للطبع، وهو ما تشاوَر بشأنه مع كاداريه الذي رحّب بذلك. وبعد صدور كتابه "41 سرّاً"، أرسل نسخةً منه إلى كاداريه الذي، وبعدما اطّلع على القسم الخاص به، اتصل به وشكره على ذلك. ولذلك رأى أنّ إقحام ابنة كاداريه نفسها هو من "باب ما لا يلزم" في حياة أبيها الذي وافق على ذلك.
هذا مجرَّد مدخل للحديث عن اللقاء الممتع بين بن بلوشي وكاداريه، الذي كشف للقرّاء الألبان بعض الأمور عن كاداريه للمرّة الأُولى، وهو عرضٌ لقراءة كلّ الحديث وكلّ الكتاب الممتع لبن بلوشي ورواياته الإشكالية؛ مثل "أن تعيش في جزيرة".
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري