تحت القصف، وفي ذلك الجوّ من العصبيّة العامّة، وفي أحيان تدافُع الهستيريا، يكون من أسوأ الأمور بروز حضور القدر غير المرغوب فيه، أو المرغوب فيه، لطيفاً: أي غير كامل.
كلاهما لعنة. كلاهما منكود. لكنّ الاحتمال الأوّل أفضل من الثاني؛ فلا لطفَ في قدَر يترككَ مُعاقاً، معطوباً، أو عبئاً على الآخرين من ذويك الفقراء.
كلُّ الناس في غزّة، وأنا على تواصل يوميٍّ مع بعض أفراد العائلة الكبيرة، يتمنّون الشهادة التامّة، أي الموت الجماعي إن كان لا مفرّ من صاروخ، على النجاة فرداى، سالمين أو معطوبين، لئلا تكون حياتهم عذاب جهنّم بعد ذلك.
أعتقدُ أنّ هذا هو السبب، في أنّهم يتجمّعون في البيوت، متراصّين ككتلة واحدة، ومسلِّمين أمرهم إلى الله، بعدما صاروا رهن المصادفات، لا مناص.
أمّا الأمنية الكبرى اليوم، فإمّا النجاة أو الشهادة نياماً، كيلا يكون ألم، كأنّهم أنهوا حياتهم بالفعل، وما تبقّى منها هو الانتظار فقط. أُنصت وأنام، وأنا موقن أنّهم يحجبون عنّي قوائم الشهداء من الأقارب والجيران والمعارف، كيلا أموت، أنا "صاحب المرض".
أُنصت وأنام، باذراً أملي في تربة ليل مدينة أنتويرب، بطلوع صباح جديد، يكونون فيه بخير، لا ناقصين عضواً ولا عدداً. لكن، ليس كلّ مرّة، في الحرب، تسلم الجرّة. فما بالك بحربِ إبادة، لم يعرف لها التاريخ مثيلاً منذ عقودٍ وعقود.
يا ربّ شعبي وأهلي الذين ما زالوا يحبّون بعضهم بعضاً، وسيظلّون أصدقاء إلى الأبد: لتكُن معهم هذه المرّة، بعدما خذلهم الجميع.
إنهم أحبّتك المصطفون، أولئك المهووسون بأحلام التحرُّر الجميلة، إذ يدافعون عن مقاوميهم ومجاهديهم ببؤبؤ العين، ما استطاعوا سبيلاً، حتى لو أعوزتهم الحيلة والفتيلة، حتى لو أعوزتهم نهاية الرعب، حتى لو لم يستطيعوا. ولا ينبغي أن يُنظر إلى عجزهم على أنه "فشل".
إنهم أحبّتك المصطفون وهُم يدافعون عن مقاوميهم ببؤبؤ العين
نحن لسنا أغبياء. وبالطبع نحن قادرون على إضفاء الطابع النضالي على علاقاتنا، ونطلق عليه اسم "الروابط"، ونتظاهر بألّا شيء يؤثّر علينا، لأنّنا فلسطينيون وحازمون ومتعدّدو المواهب. ولكن، في أعماقنا، كنّا نحبّ أن تظلّ فلسطين أقرب الرموش، لا تبتعد بطعنات ظهر من أبناء عمومة، لهذا نضحّي، ولهذا لا مفرّ من درب الجلجلة.
يا ربّ: ليكن هذا هو الوقت المناسب للتفكير في ما إذا كان منطق العائش تحت الاحتلال منطقياً، أم هو مجرّد وهم وترقيعات. لنكُن أكثر تطرّفاً، بمقاييس عدوّنا، عندما نتقدّم في السنّ، وقبل كلّ شيء، مصرّين على النصر بالنقاط، أو، على الأقلّ، متخصّصين، بعد الطوفان العظيم، باستيلاد الأمل من كلّ بلقع.
لقد غطّت حسرة القلب على كلّ مناطق هذا الجيب الساحلي الحبيب، حتّى كأنّ غزّة وأخواتها معالم الطلّل الأكبر.
معلش: بسواعدنا نعمُر نصف بيوتها الأنيسة الناجية من المحو. ونعمّر نصفها الثاني وقد غدا ركاماً، كذا الشوارع والحدائق والساحات.
يا ربّ: نحن نعرف أنّنا نقاوم أحطّ احتلالٍ في الكوكب. أنّ عدونا يعتاش على الكراهية والازدراء. وأنّنا أيضاً بين جيراننا، خير من يفهمه، وأفضل العارفين بنقاط ضعفه، ولو وُضع على الخريطة، باعتباره قلعة الغرب الدخيلة الأشدّ تحصيناً.
يا ربّ: إن رام الله تتقدّم في السن ولم يعُد لديها ما تقوله من زمان، فما بالك الآن وبعد الآن؟
إنّها تتحوّل، منذ عقود، إلى مونولوغ وتأتأة عندما يقرّر أي فلسطيني تقديم فطرته عن المستقبل بصرامة مناضل في ليل موحش.
ثق بنا يا ربّ: إنّ القاسم المشترك بين كلّ تلك التنظيمات هو أنّ رفاقية الدرب التي قادتْنا إلى بدء نضالنا العسكري والسياسي؛ لم تكن صداقةً قويّة بما يكفي للتخلّي عن الأنا، وإزاحة قصير البصر والبصيرة، عن المتن، والإبداع بمليون يد، على الأقل، قابضة على زنادها.
لكن تحمّس البعض مطولاً، ثم نكص، لأنّه برجوازي، لكنّ الحماس طاقة محدودة، ومنذ حرب 1982 صارت إمكانية الجري بمفردهم مُغريةً للغاية، وصار الوهم شبحَ العقل: "سأصل إلى هناك مبكّراً إذا لم أضطر إلى حملك يا رفيقي. لأن.. نعم، العلاقات غالباً ما تكون عبئاً. الجدال والاتفاق كسل وليس لدينا وقت". ومن ثمّ يبدو من المستحيل الاستمرار في الإبلاغ عن المجموعة دون الشعور وكأنّك بائعة هوى مزيّفة!
لكن، أليس هذا هو الوقت المناسب لمواصلة البناء معاً، بعد أن تسير الأمور على ما يرام بالنسبة إلينا؟ ليس بسبب الرومانسية، ولكن لأنّ النتيجة ستكون دائماً أكثر إثارة للاهتمام، إذا اضطررنا للحوار مع شخصٍ لا يتّفق معنا، حتّى لو أصبح الأمر مُرهقاً في بعض الأحيان ونريده فقط أن يصمت ويفعل ما نريد.
سأكون آسفاً يا رب لتفويت المرحلة التالية من بركات هذا الطوفان، لأنّنا لم نتمكّن من وضع الأنا جانباً، وقد تغلّب علينا هذيان المؤلّف.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا