لا أريد أن أكون هذا البلد

19 مارس 2021
ذيميتريس ذيميترياذيس
+ الخط -

أكرهُ هذا الوطن. فقدْ أكلَ أحشائي. أكتب إليك لأنّنا، معًا، اشتقنا أن تكون هذه الأحشاء خصبةً. وهذا الشوق وحَّدنا لياليَ وليالي... وفي ساعات أخرى من النهار، حينما كانت تحدث معجزة بشكل مفاجئ وكنّا ننسى الرعب الذي يسري في الشوارع، وكذلك في عروقنا... نشرات الأخبار الرهيبة التي كانت تعوّقنا وكان ينظر كلٌّ منّا إلى الآخر... يقرأها مذيعون في غاية الجنون... الصرخات كانت تغطّي على صوت سيارات الإسعاف... لم أكن أتصوّر قطّ أن الصوت الإنساني يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة من العُلوّ... أن يكون هكذا بلا عُمق... أن يسبّب كلّ هذا الذعر عند انطلاقه... على أية حال، لم أعتد قطّ على الناس لكنّ هذا يُعَدّ إعاقةً أخرى. أنا على عجلة من أمري لأخبرك ببعض الأشياء، وهذه الكلمات ستكون آخر الكلمات التي ستصل إليك منّي. أكره هذه البلاد. فقد أكلت أحشائي. أكلَتْها. أكرهُها. نعم أكرهها. لا تستطيع أيّة امرأة أن تعيش بهذه الأحشاء، كلّما أفكر في الأمر، تأتيني رغبة في تقيّؤ نفسي. أشعر أنّني قيءٌ. بل إنّني قد أكون قيئًا.

المرأة... ليست كوطن يستثمر أطلاله وقبوره... يبيع كلّ شيء مثل عُملاته القومية... فهو يعيش منها. أنا لا أريد أن أكون وطنًا. لست بلدًا. لا أريد أن أكون هذا البلد. هذا الوطن، مُضاجع الموتى، مُضاجع العجائز، يثار جنسيًا برائحة البراز، مثليّ، عاهر، قوّاد، قاتل. أنا أريد أن أكون الحياة، أريد أن أحيا، كنت سأكون سعيدة الآن لو كان لدي إرادة العيش... لكنّ هذا الوطن لا يدعني أريد شيئًا، لا يدعني أن أكون حياة، أكلَ ثدييّ كالسرطان، وعقلي، وأمعائي، أنزل الحصى في كليتيّ ودمّرهما، لوّث كل المصادر التي سينزل منها لبَني، جمع كلّ طينه وترابه في عروقي وعفَّن دمي، جلس كلّه فوق قلبي وهلهله بالنوبات والذبحات، كلّ مؤسسة له تُعَدّ نوبة قلبية، كل قانون فيه ذبحة صدرية، عاداته تصيب رئتيّ بالعجز، تاريخه يجعلني أرتعش كاملةً كما لو أُصبت بالشلل، ثقافته دهستني، أنهكتني، لم أعد أحتمل، موقعه الجغرافي ربوٌ على صدري، شكله كلّه يتمدّد أحيانًا على جسدي كحزام من القوباء يُصيبني بالجنون، وأحيانًا يأخذ شكل جرافة عملاقة ويغوص في عيني، إبَر ضخمة ويثقب جمجمتي، صخرة كبيرة معلّقة في شعري وتجرّني في بحر من الجموع المُرّة...

وأشعر دائمًا في عنقي بامتداده ودائمًا يربط لساني تَلعثُمه ودائمًا تصيبني حقارته بقشعريرة عارمة... إخلاصه لأشباحه، متجنّبيه، مسوخه، عقوله المعطّلة، وجثّته، وتوابيته، وجرائمه... هذا الوطن هو وباؤنا. سيميتنا، سينسفنا. كيف يمكن الخلاص. إنه يشرب دماءنا، يشربها. لم يعد حتى يدعني أنام، سلب مني النوم، كيف سأعيش بلا نوم؟ لن نعيش... مَنيُّ كل رجاله لن يستطيع أن يُحيي أطلال جسدي من حيث تبدأ حياة الإنسانية...

فَرّغت حياتك كلها بداخلي وتركتني بلا حياة... وأنت لم تعد قادرًا على شيء. لقّحتني لكنّ لقاحك أبدًا لن يثمر، لا يستطيع لقاحك أن يثمر... لن تخرج من داخلنا حياةٌ أبدًا... تلك الحياة الشمطاء. كنتُ أودّ فقط أن تكون أمامي؛ كي أذبحها بيديّ. آع، يا إلهي، كم أودّ أن أقتلها. نجح مجرموها في أن يصلوا إلى أرحامنا ويحفروها كالمقابر. الخنازير، الخنازير، كلهم خنازير، بمن أبدأ وبمن أنتهي، كلّهم مجرمون، كلّهم، يخلقون بداخلي الإحساس بالاحتياج إلى ارتكاب أكبر الجرائم، إلى مذبحة لانهائية، مذبحة لانهائية... آآآه، كيف نتحمّل هنا، كيف لم نُصَب بالجنون بعد، هذه البلاد الداعرة، هذه المنحطة، هذه المشنقة، عقدة صحيحة... وذبَّاحُوه الرسميون يُلقون الخُطَب الرسمية في احتفالات رسمية أمام ذبّاحين رسميين آخرين...

كلّ موردٍ لها دينٌ كبير، كل ركن فيها سكّينٌ غادرة ، كلّ مليمتر فيها كمين، مليئة بمصائد الموت والمطاوي الحادّة، والسفّاحين، والنصّابين والأغبياء، وِكرٌ للشواذ وتجّار اللحم الأبيض، تدوس على رؤوسنا في فضلاتها، تركلنا بوحشية في خصانا، إنّكِ تدهسيننا أيتها الغبية، تخنقينا، تحطمينا، تفصلينا، تغرقينا، تحكمين علينا، تُميتينا، لقد أمتنا، يا خنزيرة، يا رخيصة، يا ملوثة، يا جَرباء، يا مُسمِمة، يا أفعى، يا ذئبة، يا غجرية، يا زانية، كنت كالقردة والببغاء، يا جالبة النحس يا تعسة، لا أحتملك، لا لم أعد أحتملها، تلك المجرمة، قاتلة الأطفال، الشرّيرة، الحاقدة، العرجاء، العمياء، الحذاء، العجوز الشمطاء، ذات السنين التعِسة، لم أعد أحتمل شيئًا منها، لا شيء، لا شيء، أكرهها، أكرهها، آآآآه، أكرهها، أكرهها، أكرهها، أكرهها، لن أموت، أيّها الوطن المتوحّش، وسأظلّ أكرهك، نعم، أضعُ الكره بداخلي، أريد أن أكتب أناشيد مغايرة، غير التي كُتبت حتى الآن فيك، وأطلق الرصاص على الكلمات كالكلب، كلمةً كلمة، وألقي بها بيديَّ هاتين... لست امرأة بعد... ولست رجلًا بعد... آخذ منّا كل شيء... ماذا سيبقى له دوننا؟ ماذا سيصبح هذا الوطن عندما لن يبقى منا شيء؟ ترابه قد أخذ شكلي... جسدي أخذ أبعاده... بداخلي قدرُه... أموت، أموت كوطن.


* المقطع الأخير من رواية "أموت وطناً" لـ ذيميتريس ذيميترياذيس (المركز القومي للترجمة، 2015).

** ترجمة عن اليونانية: خالد رؤوف

المساهمون