يسأل شابٌّ يقف خلف آلة التصوير أحدَ البريطانيّين في واحدة من المظاهرات هناك: أنا فلسطيني، لماذا تتضامن مع فلسطين؟ فيجيب: لأنّني إنسان. ويسأل متظاهر أميركي في أحد الفيديوهات: لماذا عملت أوروبا على جعل الفلسطينيّين يدفعون ثمن الجرائم العنصرية التي ارتكبتها النازية في أوروبا؟
يُقال هذا في تلك البلاد التي كان سياسيّوها قد أعطوا وعداً بتمليك فلسطين، وهُم لا يملكون الحقّ في منح الوعود، لمجموعات متفرّقة في أصقاع الأرض، ليس بينها أيُّ رابطٍ غير الدين، ولا تملك الحقّ في امتلاكه، كما يُطرح في أميركا نفسها التي تقدّم اليوم دعماً عسكريّاً وسياسيّاً لا محدوداً لحرب الإبادة الصهيونية. هل سيحدث فرقٌ ما في عالمنا بعد اليوم؟
حين يتظاهر آلاف الشبّان والشابات في نيويورك تحت الثلوج والأمطار وهُم يهتفون "الحرية لفلسطين"، فنحنُ أمام فارق تاريخيٍّ لم يحدث من قبل. وحين يتواصل التظاهر في لندن منذ أن بدأ العدوان الإسرائيلي على غزّة، كي يطالبوا بحق الفلسطينيّين في العيش بحرّية، ويهتفوا بسقوط الصهيونية، فهذا الهتاف وحده يشكّل اليوم انعطافة خطيرة وكبيرة ونوعية في الوعي العام لشعوب الأرض.
فبعد أن تمكّنت الصهيونية من التمدّد في العروق الدموية للفكر الغربي، وفي كثيرٍ من أفكار شعوبٍ من غير الغربيّين، مستغلّةً بكثير من الدهاء جرائم النازية في المحرقة، كي تتوصّل زوراً إلى وضع قضية احتلال فلسطين، بوصفها حلّاً أخلاقياً وإنسانياً لمشكلة مُزمنة في التاريخ، فإنّ الأمل اليوم في التغيير مرتبطٌ بجهود أولئك المتظاهرين الذين لن يعودوا كما كانوا من قبل.
ها هُم الآخرون يتظاهرون اليوم دفاعاً عن فلسطين وعن أنفسهم
يبدو الأمر خارج نطاق المعقول الذي نعرفه، إذ يُفترض أن نكون نحن، أي الجماهير العربية التي كانت تتزاحم للاستماع إلى محمود درويش وهو يلقي الشعر، أو تغنّي مع مارسيل خليفة "منتصب القامة أمشي"، أو تقرأ "باب الشمس" لإلياس خوري، أو "أرض البرتقال الحزين" و"أدب المقاومة" لغسّان كنفاني، قد بُحّت حناجرنا من الهتاف.
ويُفترض ألّا نخرج من الساحات والشوارع ونحن نطالب العالَم، ونصرخ في وجهه، ونشرح ونوضّح ونحكي ونؤرّخ ونعيد قول التاريخ الحقيقي، ونضع ميزان الحقّ والأخلاق أمام البشرية كي تصحو من غفلتها الطويلة عن جرائم الصهاينة التي فاقت كلّ الحدود.
لم نفعل، وها هُم الآخرون، الأبناء والأحفاد الذين كان آباؤهم وأجدادهم قد تشرّبوا لغة الموت المعبّأة في الأسفار وهاجموا الفلسطينيين بها، يتظاهرون دفاعاً عن فلسطين، وعن أنفسهم. "لأنّني إنسان" يقول المتظاهر البريطاني.
صحيحٌ أنّ "حقّ القوة" لا يزال قادراً على التدمير والخراب، ولكن الجديد في العالَم اليوم أنّ صوت الحق، قوّة الحق؛ تلك القوّة التي اعتقدنا أنّ الرصاصة والقنبلة والطائرة والصاروخ التي ابتكرها دهاة علماء العسكر معدومي الضمير، قد دمّرتها، أو جعلتها بلا قيمة، إنّما يستعيدها الآلاف، بل الملايين من الناس الذين أوجعهم، كبشر، ما يحدث من جرائم أمام أعينهم.
لا نعرف ماذا سيحدث في الضمير الإنساني، وهل سيكون بوسع أولئك الذين تظاهروا ضدّ الحرب، في زمن الحرب، أن يواصلوا العمل ضدّها في الزمن الذي يعقب نهايتها؟
* روائي من سورية