حين أصدر الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب عام 2017، قراراً بحَظر السفر على بعض مواطني الدُّول الإسلامية، بدأت الفنانة والمغنيّة الفلسطينية ريم الكيلاني بالعمل على ألبوم جديد، وكانت النتيجة بأن صدر في العام 2022، الجزء الأول من مشروعها الغنائي "هذه الأرض أرضك"، والذي أهدته آنذاك إلى ذكرى المغنّي والناشط السياسي الإيراني الراحل محمد رضا شجريان (1940 - 2020).
أمَّا الجزءُ الثاني من مشروع "هذه الأرضُ أرضُكَ"، فقد قالت الفنانة الفلسطينية إنّها لا تزال تعملُ عليه، وإنّه "يبحث في تراث الأندلس وهو مُهدىً إلى ذكرى الفنان السوري الراحل حاتم علي، وإلى المُغنّي والشاعر الأندلسي كارلوس كانو (1946 - 2000)، بوصفه فنّاناً غرناطياً لم يخلع الأندلس العربية من هويّته كقومي أندلسي مُعاصِر".
كم أتمنّى لو أتكلّم العربية. لقد فقدتُ لغتي الأم منذ 500 عام
عُرف عن المغنّي والشاعر كارلوس كانو، الذي ولِد في غرناطة، أنّه أحيى بعض الفنون الشعبية التراثية التي كانت قد اندثرت في إسبانيا، ولا سيّما في مقاطعة أندولسيا (الأندلس)، بعد عمليات وممارسات المَحي والمنع والتهميش والتشويه المُمنهجة التي مُورست ضدّ التراث العربي الأندلسي، من قبل دكتاتورية فرانكو بين 1939 - 1979. كان ذلك التراث الأندلسي المتجذّر في شعب الجنوب الإسباني، تعبيراً حقيقياً عن الهويّة الإسبانية، التي لا يُمكن فصلها عمّا هو عربي أندلسي، لما يحمله من مشاعر إنسانية وإبداعية وكونية عميقة. عبّرت تلك الأغاني التي ردّدها كارلوس كانّو؛ والتي كانت في غالبيتها شعبيةً ارتجالية، وأحياناً حوارية، لا سيّما في غرناطة وقرطبة وغيرها من المدن الأندلسية، عن الحياة الثقافية والإبداعية، وعن معنى التمسُّك بالجذور والهوية والأرض الأندلسية.
وبذلَ الشاعر والمغنّي أقصى جهده لتحرير هذه الأنواع التراثية من الفاشية الموجودة آنذاك، ومن الحدود والقيود التي فرضتها دكتاتورية فرانكو على الإبداع الأندلسي؛ تماماً كما يفعل الاحتلال الإسرائيلي اليوم مع كلّ مُبدع ينشر قضية فلسطين في العالم. من هنا يمكننا أن نفهم معنى أن تُهدي ريم الكيلاني الجزء الثاني من ألبومها لهذا الشاعر والمغنّي الأندلسي، الذي كان مثالاً لإنسان متمسّكٍ بأصله وبتراثه، وهذا ما يتماهى ويتناغم مع المشروع الوطني والقومي الذي بدأته الفنانة الفلسطينية، انطلاقاً من استعادة التراث الفلسطيني ونشره جغرافياً وزمانياً، عبر الأغنية المُلتزمة والتراثية.
اضطرَ كارلوس كانّو، كمثل العديد من الأندلسيّين، إلى الهجرة في شبابه إلى سويسرا وألمانيا، هرباً من القمع والفاشية. هكذا انعكست تجربة الهجرة على أعماله، وزادته تمسّكاً بهويته الأندلسية التي لم يتردّد مرّةً في التعبير عنها. وتحضرني هنا إحدى اقتباساته الشهيرة التي أدلى بها في إحدى حفلاته في المغرب، حين هتف له أحد الحضور مُنادياً عليه: "أيُّها الغرناطيّ، غَنِّ لنا بالعربيّة!"، فما كان من كارلوس كانّو إلّا أنَّ أجابه: "كم أتمنّى لو أستطيع ذلك. لقد فقدتُ لغتي الأم منذ 500 عام"، في إشارة منه إلى سقوط غرناطة 1492.
لدى عودته إلى إسبانيا، ألّف كانّو مقطوعات موسيقية فائقة العناية، واتّسع أسلوبه ليشمل العديد من الفنون المختلفة مثل "التانجو" و"البوليريا" و"الرومبا"، إلّا أنّه برع في تأليف المقطوعات الموسيقية التي تعود إلى أصول عربية أندلسية. وربما كانت أغنيته "الملك المعتمد يقول وداعاً لإشبيلية"؛ والتي استلهمها من وحي أبيات شعرية للمعتمد بن عبّاد وهو في الأسر، من أشهر ما غنّاه، إضافةً إلى أدائه وتلحينه لمجموعة الشاعر الغرناطي لوركا "ديوان تَمارِيت" (1998)، والذي تبدو فيه واضحة السمة الصوفية العربية الأندلسية.
يقول كارلوس كانّو في قصيدته - أغنيته - الأندلسية "الملك المعتمد يقول وداعاً لإشبيلية"، والتي تنتمي إلى أشهر ألبوماته "عن الشمس والقمر" (1980): "حبيبي في هذه الساعة المُلتبسة يقول قلبي وداعاً لهذا الزمن، حبيبي. وحده الله يناديني في الصمت، بينما يُسمع مع الهواء تحليق النسور التي تنتظر. لا أحد يبكي على حالي، إلّا في الذاكرة، وبعض أشعاري: كنتُ ملكاً عظيماً، ومُلكي على ضفاف نهر جميل. آه يا نهر الوادي الكبير! آه إشبيلية، إشبيلية، ما أبعدك يا إشبيلية! يا قيدي الوحيد الذي أحسّ به. يا قيدي، يا قيدٌ، يا قيدٌ، يا قيد! تلطّف بي، يا قيد، فإليك سلّمت أحوالي! حبيبي، يا حبيبي، ضمني ضمةً، يا حبيب".
رحل كارلوس كانّو عن عالمنا في العام 2000، في مسقط رأسه في غرناطة، بعد صراع مرير مع المرض، ولكن قبل ذلك، ترك لنا إرثا كبيراً من الألبومات والأغاني التي لا تزال تثير مشاعر الكثير من الأندلسيّين في الجنوب الإسباني، ومن أشهرها: "قمر نيسان" (1988)، و" إيقاع الحياة (1989)، و"لون الحياة" (1996).
أندلسي متمسك بتراثه كمثل ريم المتمسكة بأرضها الفلسطينية
تؤكّد ريم كيلاني في استعادتها لهذا الشاعر والمغنّي الأندلسي، أنها لا تتقن فناً آخر إلّا فنّ الصمود والتمسّك بالتراث. في صوتها ما يجب أن يعني لنا تجاوزاً لما هو آنيٌّ وعابر، وتمسكاً بكلِ ما هو ثابت ووطني وقومي: أي الأرض. صوتها يوحّد. كلُّ حرف يخرج من حنجرتها يؤسّس بالضرورة إلى تحطيم القيود والحدود التي يفرضها الطغيان، وإلى إنشاء علاقاتٍ متجذّرة بين الإنسان والكون، الإنسان والأرض التي ولِد فيها.
بهذا المعنى، تؤسّس الفنانة والمغنّية الفلسطينية في تجربتها لمشروع اختراق مختلف الحدود والسلاسل والقيود التي يضعها الاحتلال الإسرائيلي. لا تتقن ريم فنّاً آخر إلّا فنّ اختراق الاحتلال، وتجاوزه غضباً عنه. هكذا تدخل في صميم الأشياء، في لبّها، فتثيرها، تُرعشها وتُحدث ثورةً كبرى: ثورة التراث والأرض، ثورة تحطيم جميع القيود التي يحاول المُحتلّ أن يفرضها، ثورة استعادة كلّ ما هو متمسّك بأرضه وتراثه.