كاتب من العالم: مع هيمانت ديفاتي

24 مارس 2021
(هيمانت ديفاتي)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع كاتب من العالم في أسئلة حول انشغالاته الإبداعية وإنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "أصبحنا مجتمعاً استهلاكياً وأخذتْ قيَمُنا تتدهور في اقتصاد "استعمِلْ وارْمِ" الذي نعيشه اليوم"، يقول الشاعر الهندي في حديثه إلى "العربي الجديد".


■ كيف تقدّم المشهد الأدبي في بلدك لقارئ لا يعرفه؟

- الهندُ بلدٌ كبيرٌ ومتعدّدٌ ومتنوّعٌ للغاية، ويمكن اعتباره بلداً مكوّناً من 58 دولةً مجتمعةً في دولة واحدة تتضمّن 22 لغة معترفا بها دستورياً، أمّا اللغاتُ المحكيّة فهي أكثر من أن تُعَدّ أو تُحصى. تُنتِجُ الهندُ الكثير من الأدب، بكلّ أنواعِه وأجناسِه، ولكنّ العالَم لا يطّلع إلّا على الكتابة التي تتمحورُ حول المناطق الحضرية، أي الموضوعة باللغة الإنكليزية والتي بالكاد تُمثِّل البلدَ وثقافتَه المتنوّعة. لذلك، لا يمكن حصْر هذه اللغات والأدب المتنوع في لغة واحدة تمكن قراءتها على الصعيد العالمي. تقديمُ صورةٍ واضحة عن الهند الحقيقية يعني جَمْعَ كلِّ كتّابِها وشُعرائِها وفنّانِيها ومنظّماتهم المحلّيّة والثقافية معاً تحتَ مظلّة واحدة، وهذا بالطبع ليس مهمّةً سهلةً على الإطلاق.


■ كيف تقدّم عملك لقارئ جديد، وبأي كتاب لك تنصحه أن يبدأ؟

- كتبتُ أربعَ مجموعاتٍ شعريةٍ بـ اللغةِ الماراتية، وقد تُرجِمَتْ مُعظمُ أشعاري إلى اللغة الإنكليزية. أقترحُ على القارئ الجديد مجموعتي Reloaded، وهي مجموعة من القصائد المختارة، وكذلك مجموعة "رجل بلا سُرّة" (Man without a Navel)، وهي عبارة عن مجموعة مختارات من الترجمات الإنكليزية.


■ ما السؤال الذي يشغلك هذه الأيام؟

- أشعرُ بحزنٍ عميقٍ عندما أرى بعضَ البشر يرتكبون أعمال عنف متذرّعين باختلاف طعام الآخرين أو صَلاتِهِم أو طريقةِ ممارستِهم للحبّ أو طريقةِ تعبيرِهم عن أنفُسِهِم. أعتقدُ مثل القديس الماراتي، الشاعر دانيانيشوار، أن هذا الكون هو موطني وبيتي. ينبغي على كلِّ مفكّرٍ عقلاني أو شاعرٍ أو فنّانٍ أو قارئٍ أن يؤمنَ بهذه النزعة الكونية. كما يحتاجُ عالمنا الثقافي، الذي يُعدُّ جزءاً من الطبيعة، إلى أناسٍ أكثر عطفاً وأكثر طيبةً للعيش فيه.

يحتاج عالمنا إلى أناسٍ أكثر عطفاً وطيبةً للعيش فيه

■ ما أكثر ما تحبّه في الثقافة التي تنتمي إليها وما هو أكثر ما تتمنى تغييره فيها؟

- أحبّ التعدّديّة الثقافيّة والتنوّع. قضيتُ طفولتي في قرى وبلدات صغيرةٍ قبلَ أن أنتقِلَ إلى مدينة مومباي الكبرى. ترعرعْتُ إلى جانب أشخاصٍ من دياناتٍ وطوائفَ وخلفيّاتٍ اقتصاديةٍ مختلفةٍ، يعيشون جميعاً مع بعضهم البعض في وئام، وقد حظيتُ بطفولةٍ رائعة. كان منزلي بالقرب من نهرٍ صغيرٍ بين الأشجارِ والكثيرِ من المزارعِ والأبقارِ والجاموس. لقد استمتعتُ في طفولتي بمهرجانات مثل الغاترا والأور، وكنتُ أستَمِعُ إلى أغاني الباجان وأقاصيص الكيرتان وعروض التاماشا وسرد القصص، ولعبتُ ألعابَ جيلي داندا، ولعبة الطبيب اللوحية، والكريكيت، ولعبة سوربارامبيا. هذا هو المكان الذي حظيتُ فيه بالحبِّ الأوّل، والعناقِ الأوّل، وأوّلِ قطعةٍ من شوكولاتة رافالغاون.


■ لو قيض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟

- لقد حصلتُ على فرصتي التي أعلمُ تماماً أنها الوحيدة. عشتُ حياةً حافلةً بالسعادة والحيوية، متمتّعاً بكلّ الحرية الممكنة التي عبّرتُ عنها بلغتي الشعرية. أتحدّثُ في إحدى قصائدي عن زهرةٍ صغيرةٍ نَبتَتْ لتُسبِغَ الجمالَ على المساحة الصغيرة المحيطة بها وليومٍ واحدٍ فقط. هكذا حاولتُ أن أعيشَ، وتجسّدَ هذا من خلال أوّل مجلةٍ أدبيّةٍ أطلقتُها في عام 1992. لا أعرفُ على وجهِ اليقين مدى اتّساع دائرة تأثيري في تجميلِ العالم، ولكنّني سعيدٌ بما لديّ حتى اليوم، وما زلتُ أبحثُ عن الأشخاص الذين يرغبون في قراءة شاعرٍ بسيطٍ مثلي يكتبُ باللغة الماراتية.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- دعونا نتعاون مع بعضنا البعض ونستمتع بالأشعارِ الرائعة باللغات المتعددّة، وبالأدب والفن والموسيقى، وبجميع أشكال الرقص والتقاليد الشفوية، والأفلام التي تجعلُ العالَم نابضاً بالحياة من الناحية الثقافيّة، اليوم وإلى الأبد. دعونا نلتزم بالحكمة التقليديّة المرتبطة بالزراعة والغذاء. لنقم جميعاً بدورنا على أكمل وجه. 

تنتشرُ العوالم العربية والفارسية في لُغَتِنا الماراتية

■ شخصية من الماضي تودّ لقاءها، ولماذا هي بالذات؟ 

- "لا أُتقنُ سوى كتابةَ الشِّعرِ. 
كان ينبغي أن أولدَ بموهبةِ الغناء
أو الرسم. 
لم يأتِ الحمضُ النووي الذي ورِثتُهُ
من حقدِ جنكيز خان.
وُلِدْتُ لأمٍّ هنديةٍ كاتودية جونديّة
حيثُ رَشَحَتْ الحياة من حولي موسيقى من كلّ الألسنةِ واللغات.
لقد وُلدتُ لأصُبُّ الموسيقى في اللغة".

سيكون خياري الأول تشارلز داروين. لقد ساعَدَنا داروين في فهمِ التطوّر والبقاء. أثبتَ العلمُ صحّةَ نظرياته من خلال عِلم الوراثة واكتشافِ الحمض النووي. كان لداروين، بطريقته الخفية، دورٌ فعّال في جعلنا ندرِكُ أن الطبيعة هي الأسمى.


■ ما هو، في اعتقادك، أكبر خطر على حرية الكاتب والكتابة في العالم اليوم؟

- لدي قصيدةٌ قصيرةٌ تجيبُ على هذا السؤال:
"أجلسُ لأكتُبَ 
فيتزَلزَلُ أهلي في الوطن".

من المستحيل التوقّف ـ القسم الثقافي
(غلاف مجموعته "من المستحيل التوقّف")

■ ما هي قضيتك وهل يمكن أن تكون الكتابة قضية بذاتها؟

- أصِفُ في شِعري كيفَ تغيّرَتِ الحياةُ الحضريّة بعد العولمة والخصخصة وتحرير الاقتصاد والرقمنة. أشعرُ بالقلق من أن العالم الذي أخذ يتسطَّح شيئاً فشيئاً يودي بنا إلى رتابةٍ محبطةٍ في اللغة والثقافة والهوية. لقد أصبحنا مجتمعاً استهلاكياً وأخذَتْ قيمُنا تتدهورُ في اقتصاد "استَعمِلْ وارْمِ" الذي نعيش في خِضَمِّهِ اليوم. أريد أن يعيشَ الشّعرُ في كلّ هذا. أخشى ما أخشاهُ من احتضار لغةٍ ما وقد فقدنا الكثير من اللغاتِ بالفعل. أمنيتي الأخيرة هي أن أموت وأنا أقرأُ قصيدة.

"تَشُمُّ القصائدُ في هذه الأيام رائحةَ 
زوالِ اللغة
ولكنّ القصائدَ لا تَستشْرِفُ نُذُرَ  
فنائِها الوشيك.

قد يجدُ البعض قمّةَ الإنجاز في حياتِهم
في كتابةِ الشِّعرِ حول فكرةِ الموت

ولكنْ هل سمِعْتَ يوماً عَمَّنْ احتُضِرَ 
وهو يكتبُ أو يقرأ الشِّعرَ؟

يا إلهَ الشِّعرِ، 
امنحني رصاصةً في رأسي 
وأنا أكتُبُ الشّعرَ 
أو امنحني قنبلةً متفجّرةً تقضي عليّ
بشرطِ أن أكون الميّتَ الوحيد.
ذُروةُ الحَظّ 
أن يموتَ الإنسانُ وهو يقرأُ الشِّعر. 

فليغمرني الظلامُ والنورُ 
بصمتٍ
حتى وأنا أقلِبُ الصفحة".


■ الأدب العالمي يكتبه المترجمون، إلى أي درجة توافق على هذه المقولة، وإلى أي درجة كتبك المترجمون؟

- أتّفقُ تماماً مع هذا الرأي، فما يَقرُبُ من نصف الكُتُبِ التي قرأتُها مُترجَمٌ. وقد تعرّفتُ بفضلِ هذه الترجمة على العديدِ من الشعراءِ والمؤلّفين العُظماء من مختلَفِ لُغاتِ العالم. الترجمةُ فَنٌّ ضروريّ. أنا أترجم أيضاً، وأعتقد أن الشاعر لا يَكتَمِلُ إلا عندما يُترجِمُ من لغاتٍ أخرى (يُتقِنُها جيّداً) إلى لغتهِ الأمّ.

أعتقد أن الشاعر لا يكتمل إلّا عندما يُترجم من لغات أخرى

■ كيف تصف علاقتك مع اللغة التي تكتب فيها؟

- أنتمي إلى جيلٍ لطالما كانت لغتُه مَوضِعَ تساؤل دائم. كان الناس يسألونني عندما كنت طفلاً في قريتي: هل تتحدّث السنسكريتية؟ هل تعرف الكتابة بخط المودي الخاص باللغة الماراتية؟ أما في الكلّية في مومباي، فأخذوا يسألونني باللغة الإنكليزية، وهو ما كان يوتّرني حقاً. كانت الإنكليزية لغتي الثالثة في المدرسة، ولم أكن مرتاحاً لهذه اللغة. كان الطلبة الذين درسوا في مدارس الدَّيرِ يتحدّثون الإنكليزية بطلاقة، ويسخرون من الطلبة أمثالي الذين يتلكّؤون في اللفظ وفي المحادثة، ممّا سبب لي عقدةَ نقصٍ لسنواتٍ عديدة. وقصيدتي التالية تشرحُ هذه الحالة شرحاً وافياً. 

"ما الذي حدثَ للُغةِ،
ذلك الصبيِّ الذي كان يَمُصُّ قصَبَ السُّكَّر؟
ما الذي حدَثَ للغَةِ، ذلك المُتشرِّدِ، 
الذي كان يدحرِجُ إطاراً قديماً في طُرقاتِ قريَتِهِ؟
ما حدث للّغة اليوميّة،
لذلك الولدِ الصغيرِ الذي كان يلعبُ بكُراتِ البِلْي؟

ما الذي حدَثَ للُغةِ الطّفلِ
الذي أحَبَّ ألعابَ السوربارامبيا، والجيلي داندا، واللاغوري، 
ولعبة بيت بيوت، ولعبة الدكتور اللوحية؟

ما الذي حدَثَ لهذا الطائر الحُرّ
الذي صَفَّرَ بشهوةٍ عارمةٍ أثناء مهرجان الغاترا؟
ذلك الفتى المُشاكِسِ الذي لعبَ آبا رابي
والكريكيت، بِكُرَةٍ من الخِرَق؟ ما الذي حدَثَ له؟

الصبي نفسه الذي تحدّثَ مع أصدقاِئه لاحقاً، 
خجولاً بلسانه الغاتي الواضح.
ما الذي حدَثَ للغته؟
ما الذي حدث؟


■ كاتب منسي من لغتك تودّ أن يقرأه العالم؟ 

- هناك العديد من الكتّاب الذين لم يطوِهِم النسيان، ولكنّهم ربما غير معروفين على الصعيد العالمي. لقد كتبَ الكثير من هؤلاء الكتّاب أدباً عظيماً باللغة الماراتية، ومن بينهم سانت توكارام، وديليب تشيتري، وآرون كولاتكار، وإيرافارتي كارفي، وفيلاس سارانج، ونامديف داسال.

ذُروةُ الحَظّ أن يموتَ الإنسانُ وهو يقرأُ الشِّعر

■ لو بقي إنتاجك بعد 1000 سنة، كيف تحبّ أن تكون صورتك عند قرّائك؟

- أنا شاعرٌ تجريبيٌّ متمرِّدٌ ومفرط في الواقعية. آملُ أن تعيشَ بعضُ قصائدي لمدة ثلاثين عاماً على الأقل بعد رحيلي. يُسعدُني للغاية أن قصيدةَ "العم بيدرو" قد أُدرِجَتْ في مختارات من 100 قصيدة عظيمة كُتبت باللغات الهندية منذ 3000 سنة.


■ كلمة صغيرة شخصية لقارئ عربي يقرأ أعمالك اليوم؟

- هناك أوجُهُ تشابُهٍ كبيرةٍ بين لُغَتِنا الماراتية واللغة العربية. تنتشرُ العوالم العربية والفارسية في العوالم التي نتحدّثُ بها كلَّ يوم. أتمنّى أن تستمتِعَ بِشِعري؛ وأنا مُمتنٌّ لأنّكَ قرأتَ عملي.


بطاقة

Hemant Divate واحدٌ من أبرز شعراء اللغة الماراتية الهندية. وُلد عام 1967، ويقيم منذ سنوات في مومباي. أصدر مجلة معنيّة بأدب هذه اللغة، وقد وفّرت، طيلة خمسة عشر عاماً، منبراً للشعراء الجدد، تاركةً أثراً في أدب الماراتية ما بعد التسعينيات. من دواوينه "قصائد الرابعة والثلاثين" و"لا يمكنني التوقّف وحسب" (الغلاف). صدرت له عام 2016، بترجمة أشرف أبو الزيد، مجموعة شعرية بعنوان "فضاء رتيب يبعث على الكآبة".

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون