استمع إلى الملخص
- تتنوع القصائد في موضوعاتها، لكنها تتفق في تصوير الألم والأمل، وتعكس عجز اللغة عن التعبير الكامل عن الفظائع، معبرة عن ثنائية الموت والحياة، والأمل المتجدد رغم القصف.
- تهدف الترجمة إلى تغيير النظرة السائدة عن شعب غزة، مستلهمة من مقولة محمود درويش عن الأمل، مع الأمل في أن تؤثر في الأفراد وتدفع النخبة لسماع هذا الصوت المختلف.
ثغرةٌ أُخرى تُفتح في الضمير الفرنسي عساه يتّسع فيرى ما يجري في غزّة من ألم وصوت جديد يرتفع وسط الصمت المُخزي الذي يلفّ أوروبا التي تعوّدت الصخب حول كلّ كبيرة وصغيرة حينما يتعلّق الأذى بالجهة الأُخرى، لكنها وجّهت خطاباتها وجهة أُحادية، لتخنق كلّ الرؤى المغايرة متّهمة إياها بـ"تمجيد الإرهاب".
تأتي الانفتاحة هذه المرّة من عالم الشِّعر وكلماته المنغّمة، من أبيات نُسجت فوق الأنقاض وجُمعت في كتاب: "فليأتِ موتي بالأمل: قصائد من غزّة"، الصادر عن "دار ليبرتاليا"، في المجموعة الخاصة بمجلة "أوريان 21" بباريس. وقد تولّت ترجمتها للفرنسية الدبلوماسية والمترجمة اللبنانية - الفرنسية ندى يافي، التي سبق لها أن أصدرت كتابَين حول مكانة الضاد في السياق الغربي.
كان مبتدأ المغامرة حين التمس الصحافي الفرنسي آلان غريش من ندى يافي أن تنتقي بضع قصائد، صاغها شعراء فلسطين لترجمتها وتقدّمها إلى القرّاء الفرنسيّين. قبلت يافي هذا التحدّي دون تردُّد مع أنها تهيّبت منه قليلاً في البداية لأن الأمر يختلف عمّا سبق لها أن قامت به من ترجمات طيلة سيرتها المهنية، حيث اهتمّت بنقل الخطاب الدبلوماسي حين عملت في أروقة وزارة خارجية فرنسا وصاحبت رؤساءها في رحلاتهم إلى نظرائهم العرب.
قصائد تنقل لقارئ الفرنسية وقائع لا يراها في إعلام بلاده
تُذكّرنا يافي في مقدمة الكتاب بزيارة الرئيس الأسبق جاك شيراك الى غزّة في إحدى هذه الرحلات فتقول: "تشرين الأول/ أكتوبر 1996. أكثر من ربع قرن مضى على ذلك التاريخ. وقتها كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك يقوم بجولة في الشرق الأوسط، توقّف خلالها في مدينة غزّة. ما زلت أذكر - بصفتي المترجمة الرسمية إلى اللغة العربية آنذاك - تلك اللحظة التي كان الرئيس الفرنسي يتابع فيها باهتمام شرح الرئيس ياسر عرفات للخريطة الموضوعة أمامهما. خريطة تنطوي على مشروع مرفأ من شأنه إعادة فتح غزّة على الدنيا، بل وإحياء مَجْدها الغابر مفترقَ طرق تجارية عالمية. غنيٌّ عن البيان أن المرفأ المرتجى لم يبصر النور. فإسرائيل لم توافق... فالحصار الإسرائيلي كان ماثلاً منذ ذلك الحين، إذ كانت الحدود جميعها تحت سيطرة إسرائيل. لم أعد أذكر تفاصيل الخريطة، ولكن الأمل المشرق على كل الوجوه المحيطة بنا في تلك اللحظة، هذا ما لا يمكن أن أنساه. هذا الأمل الجامح الذي يرفض الانكسار هو ما لمسته مجدداً في ما قرأته من أشعار نابعة من غزّة، على خلفية الأوضاع المأسوية. ومن ضمن ما تأثرت به القصيدة الأخيرة للشاعر رفعت العرعير، وما جاء في السطر ما قبل الأخير منها: 'فليأت موتي بالأمل'".
مدفوعةً بهذا الأمل، قبلت المترجمة الدبلوماسية التحدّي المتمثّل بترجمة الشعر وأخرجت هذا السفر الجميل الذي يتضمن تسعاً وأربعين قصيدة، كُتب بعضها قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وبعضها الآخر بعده. على أنّ كلّ الشاعرات والشعراء ينحدرون من قطاع غزّة، وبعضهم استشهد خلال القصف العشوائي في حين يبقى مصير الآخرين مجهولاً مع صعوبة التواصل معهم، لانشغالهم بتوفير احتياجاتهم اليومية والأمنية التي لا تترك مجالاً للشعر ولا لغيره من الفنون، فهم في كلّ لحظة مهدّدون بالإبادة.
كما تضمّنت هذه الاختيارات ترجمة قصائد صاغها الشعراء باللسان الإنكليزي، لأنهم فضّلوا التوجّه إلى العالم الخارجي مباشرة وإيصال أصواتهم المخنوقة إلى الجمهور البعيد، حتى لا تظلّ أصداء المعاناة منحصرةً بين الحدود، تتردّد فقط بين باعثيها ومتلقّيها من أهل الضاد الذين يتشاركون اللغة والمعاناة. كما تناولت المختارات ثلاثة نصوص نثرية تحمل طابعاً شعريّاً، رغم عدم انتمائها للشعر الحرّ، مثل نصوص محمد عوض ومهند يونس وضحى الكحلوت، فضلاً عن نص كريم القطان الختامي الذي يعتبر بمثابة قراءة شاملة للقصائد ويجعل لها في نهاية الكتاب صدى مدوّياً.
موضوعات هذه القصائد شتّى، ولكل قصيدة معناها الذي تعقبته وكونها الدلالي، ولكل نصٍّ عالَمه وحساسيته، لكنها تدور جميعاً حول الألم العميق من رؤية هذه المدينة - السجن تنهار شيئاً فشيئاً على وقع القصف العشوائي. لتقوم على أكداس الركام كلمات تحمل بصيص أملٍ، وبين ثناياها ألق صبح قد يُشرق بعد هذا الظلام الدامس.
كما تتّسم هذه المختارات بتنوّع أحجامها وموضوعاتها، لكن جوهرها يكمن في صدق التصوير وجمالياته، رغم ما تحمله من آلام وآثار مروّعة عن "الدماء والركام"، وكلها تعكس عجز اللغة عن التعبير الكامل عن الفظائع، مما يجعل قوتها كامنة في تعبيراتها الفنية وعمقها العاطفي.
ففي القصائد كلّها ثمة علاماتٌ وصورٌ، نوارس أو أقاحٍ ينبعث منها عبق فجر جديد قد يولد بعد أوجاع الوضع الذي طال لسنوات، بل لعقود، كاد فيها الوليد أن يقضي مع أمِّه، وقابلتِه ومحلِّ ولادته. قصائد تحكي مرارة الفقد وغربة الجسد- الوجدان المعذَّب تحت القنابل التي لا تُميِّز بين طفل وعجوز. ومع كل موضوعٍ، ترتسم ثنائية الموت والحياة، الألم والأمل، الفجيعة والفرح، في انتظار هدوءٍ يستعيد خلاله الشعراء كلماتهم وبهاء قوافيهم.
إيصال الأصوات المخنوقة إلى الجمهور البعيد خارج الحدود
وأما الترجمة الفرنسية، في هذا الكتاب الصادر باللغتين، فسلسة، رفعت التحدي المتصل بنقل الإيقاع والصور وشُحَن الأسلوب، لأنها تضمنت هي الأُخرى نفس هذه المقومات الجمالية. ذلك أن قوة التعبير، في مثل هذه النصوص، ليست في قيمها البلاغية وإلا تحوّلت إلى مجرد تصنّع، بل هي في حرارة الوصف واتقاد الوجدان الذي يشهد على إبادة تجري على مرأى ومسمعٍ من الجميع. ومع ذلك، فالفن يعيد صياغة الواقع ويرتقي به صروحاً يعوّض بها ما ينهار أمامه من حجر وبشر. وسيجد القارئ الفرنسي نفسه أمام كلمات قوية وصور مؤثّرة لم تفقد شيئاً من ألقها الأصلي ولا من صدقها الذي يشعّ من النص - المصدر.
تأتي هذه القصائد المترجَمة لتطلع الجمهور الفرنسي على أنَّ شعب غزّة مثل أي شعب يحُبّ الحياة ويسعى إليها وليس إطلاقاً "عصابة من الإرهابيّين"، كما يصوّره الإعلام الغربي، الذي يختزل أحلام شعب وحياته ومنجزاته في عدد قليل من "المخرّبين". وبهذه المحاولة، تهدف يافي إلى زرع الأمل وتغيير النظرة، فقد تبنّت المترجمة مقولة لمحمود درويش وجّهها إلى وفد البرلمان العالمي للكتاب سنة 2002 قائلاً: "نحن مصابون بداء لا شفاء منه، هو الأمل". ومن هذا الأمل تستمدّ يافي طاقتها وبه تتعلّق باحثة عنه في الصور والتعابير الشعرية، في صياغة هؤلاء الشباب الذين صوّروا معاناة الأرض والأجساد المعذّبة والأرواح الحائرة في ظلّ الاحتلال الغاشم.
ومع ذلك، يبقى السؤال حارقاً عن الأثر الذي نرتجيه من الأقوال الشعرية إذا كانت الصور الواقعية التي وثّقت لجرائم الاحتلال لم تنفع في تغيير السياسة الصامتة للحكومات الغربية ولا في دفع القوى العظمى إلى تجاوز الاكتفاء بإصدار بيانات الإدانة للتوصل إلى إيقاف الفاجعة. وقد يظل الأمل معقوداً فقط على الشعوب، أي على الأفراد الذين يقرؤون مثل هذه القصائد ويُمعنون في معانيها، ثم يسعون إلى الحركة مهما كان تواضُعها وحدودها. ولعلّ تحركات أفراد تكون قوة ضغط تدفع النخبة والمثقّفين فقط إلى سماع هذا الصوت المختلف الذي يئنّ من تحت الأنقاض، وتكون هذه القصائد قد أدت عندئذٍ وظيفتها: إحياء الأمل.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس