استمع إلى الملخص
- المثقفون العرب منقسمون في مواقفهم تجاه قضايا المقاومة والصراعات الإقليمية، مما يعمق الكراهية والإقصاء بينهم ويعكس حالة من الضياع الثقافي بدلاً من توحيد الصفوف.
- يواجه المثقفون تحدياً في إعادة تعريف دورهم واستقلالهم عن الأنظمة السياسية، مع الحاجة لبناء ثقافة قائمة على الحوار والتفاهم لضمان مستقبل أفضل.
إذا أردنا وصف المرحلة الراهنة التي يعيشها العالَم العربي، فإنّ لفظة التمزّق ستكون الأكثر قدرةً على التعبير عن الوضع القائم الذي نعيشه في الميادين كافّة: الإبادة الجماعية التي تُكمل عامَها الأوّل والغزو الإسرائيلي للبنان وما يرافقهما من استسلام وقائي عربي كامل، وفشل للثورات، واستمرار لأنظمة الطغيان، وحال المواطن العربي الذي ازداد تشرّداً وفقراً وقيوداً، ووضع المرأة، وانعدام الحريات، وغيرها من قضايا التراجع والانحلال في مجالات التعليم، والتربية، والكلمة.
هو تمزّق مقرونٌ بما يحدث في العالَم من تمزّقات وأزمات وخطط واستراتيجيات وتحالفات وصعود لليمين المتطرّف وتدخّل في شؤون الدول ومصائر الشعوب واحتكار لوسائل الإعلام والتلاعب بها. ولكن هل هناك من يرى أو يفكّر؟
في ظلِّ هذا التمزّق العربي خاصّة، والعالمي، عامّة، يُفترض من المثقّف أن يلعب دوراً توعويّاً أكثر من أيّ وقت مضى. لو نظرنا اليوم إلى حال المثقفين العرب في الحياة الثقافية العربية، فسنرى أنّه في ظلّ الدمار والموت اللذين هما نهارنا وليلنا، فإنّ كلَّ مثقفٍ يتمترس وراء قلعته الخاصّة، وكلّ مثقف غارق في حربه الخاصّة.
"مثقّفون" يتأرجحون في الفراغ تلعب بهم الريح كما تشاء
وفي حين تعمل "إسرائيل" على استئصال غزّة وقريباً لبنان من الخريطة العربية، تمهيداً للقادم الأعظم، يتّخذ التمزّق الثقافي العربي بعداً تراجيدياً، محوّلاً الثقافة العربية إلى مجموعة من المستنقعات، ليس فيها إلّا التماسيح.
وفيما يقف بعض المثقّفين مع حركة حماس في حربها ضدّ العدوّ بوصفها مشروع مقاومة، يقف بعضهم الآخر ضدّ حزب الله بوصفه مشروع مقاومة، وفي حين يفرح بعضهم لأنّ "إسرائيل" تقاتل حزب الله في لبنان، يسوّغ آخرون لحزب الله، بشتّى الحجج والمبرّرات، أخطاء تدخّله في سورية وعثراته. يحدث هذا كلّه بأسلوب الكراهية والضغينة والإلغاء والإقصاء، وبمفردات الخيانة والعمالة والطائفية والتكفير.
في هذا كلّه ما يؤكّد حقيقةً تزيد من مرارة التمزّق: كلّما اقترب الإسرائيليون أكثر من تحقيق مشروعهم الاستعماري، يزداد العربُ بعضُهم من بعض ابتعاداً. كأنّ العدوّ المشترك للعرب لم يعد "إسرائيل". كأنّ الحياة الثقافية العربية منذورةٌ كي يقتل قابيل أخاه هابيل كلّ يوم، منذ طلوع الشمس إلى غروبها. وكأنّ رغبة الإقصاء والتمزيق والتدمير الذاتي هي التي تقود حياتنا ومصيرنا.
مثقّفون يتأرجحون في الفراغ، حيث تلعب الريح بهم كما تشاء ومتى تشاء. مثقفون - قشٌّ في عين الثقافة.
كلّا، ليست الثقافة هي وحدها الضالّة في هذه المرحلة العربية، بل المثقّف نفسه هو الضالّ والضائع.
مثقّفون ينتقدون سلطات الطغيان في حين يتعبّدون سُلطات وأنظمةً أكثر طغياناً وقمعاً ويقاتلون من أجلها كل شيء. مثقّفون يعيش في أعماق كلّ منهم عبدٌ وطاغية. مثقّفون ينذرون حياتهم لقتل بعضهم بعضاً، وإقصاء بعضهم بعضاً، وسجن بعضهم بعضاً، وكلٌّ منهم يريد أن يحتكر الحقيقة لنفسه. وفي هذا كلّه، لم يعد العدوّ هو الذي يثير الخوف، بل صار الخوف يجيء من الآخر القريب والأليف. صار يجيء من الشارع المحايد، ومن بيت الجار. وكلّ مثقّف هو الصحيح، والآخر هو المخطئ.
هكذا يحوّل "المثقّفون" العرب الثقافة العربية إلى وعاء يسكبون فيه مفردات وألفاظاً وعبارات مليئة بالحرب والعسكرة والطائفية والتخوين والتكفير، مسهمين في ذلك في إماتة اللغة. وليست إماتة اللغة إلّا نوعاً من قتل الذات والآخر في آن معاً.
في هذه المرحلة الراهنة، يخطئ المثقّفون العرب إذا لم ينتبهوا إلى أنّ مفهوم الثقافة صار مبتذلاً ومُبسّطاً، بسبب ممارساتهم وكتاباتهم ولغتهم، ويخطئون أكثر إن لم يعوا ضرورة استقلالهم عن سياسات الأنظمة أو على الأقل إقامة مسافة بينهم وبينها، وإلّا فلن نجد سوى ثقافة عصيّة على التفسير والفهم، إذ يسود فيها كتّابٌ يدافعون عن الإبادات، وآخرون فيما يظنّون أنهم يدافعون عن الحرّيات، يغرقون في قيود جديدة.
متى يعترف المثقّف العربي بأخطائه؟ متى يقول بثقة: نعم أخطأت؟ متى يعترف بهزائمه؟ ومتى يتأمّل أهوال الحروب العربية - العربية؟ ومتى يسأل: لماذا لا ننتج إلّا مزيداً من السلاسل؟
* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا