"في انتظار العتمة، في انتظار النور" لإيفان كليما: اللامبالاة كمبدأ عيش

19 مارس 2023
عمّال خلال يوم من الاعتصامات ببراغ لإسقاط النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، 1989 (Getty)
+ الخط -

رواية التشيكي إيفان كليما "في انتظار العتمة، في انتظار النور"، الصادرة عن دار "صفحة سبعة" بترجمة فائزة بودبوس (2021)، هي هذه المرة رواية الانتفاضة على النظام الشيوعي في تشيكسلوفاكيا. الرواية هي رواية بافل، الذي تلحقه في شتّى أحواله ومصادفاته وتنقّلاته، ولا تكاد تفارقه، أو تنزاح عنه، إلّا في القليل القليل من أجزائها. الرواية هي روايته بالدرجة الأولى، لكنّها وهي تلاحقه وتعرض له وتقف عنده، تقدّم من خلاله ما يتخطّاه، وما يصل مباشرة إلى أحوال تشيكيا، دولةً ومجتمعاً.

بافل هذا هو أيضاً نموذج تشيكيّ تتقاطع عنده السلطة والمجتمع، النظام والمعارضة. يمكننا لذلك، بدون أن نبتعد كثيراً عنه، بل بالبقاء عنده، أن نجد التاريخ الحديث لتشيكيا الذي انتهى بسقوط النظام الشيوعي، والانقلاب عليه.

بافل هذا، نبدأ منه، وهو يحاول مع صاحبه بيتر أن يتجاوز الحدود التشيكية، ويفرّ من بلده إلى الخارج. يستولي الاثنان على شاحنة تنقل أطفالاً، طلّاب مدارس، ويتّخذان منهم رهائن. الأمر الذي يستدعي مفاوضات مع المسؤولين، الذين يعدونهما بأن يتيحا لهما الفرار، إذا أفرجا عن الرهائن. بناءً على هذا الوعد يُطلقان رهائنهما. لكنّ الأمن، وقد بات الاثنان في قبضته، لا يلبث رجاله أن يعتقلاهما بعد أن أصابا السائق برصاصهما وقتلاه.

نخرج من الاستبداد لكنّنا نبقى ضحاياه حتى في المستقبل

يُمضي بافل وقتاً في السجن، وما أنْ يُطلق سراحه حتى يعود إلى تعلُّم التصوير، الأمر الذي ينتهي به مصوُّراً للتلفزيون، الذي هو بطبيعة الحال مؤسّسة حكومية، وعليه لذلك أن يصوّر المناسبات والشخصيات الرسمية، الأمر الذي يحزّ في نفسه، ويجعله يفكّر، على الدوام، بترك عمله، الذي يبقى على غير وفاق معه. يظلّ في حرج منه، وتناقضٍ معه، بدون أن يفضي هذا إلى هجرانه، أو الخروج منه. أثناء ذلك، وبفضل عمله هذا الذي يمهر فيه، يواكب رئيس البلاد، ويخرج هذه المرّة من البلاد معه في أسفاره. لقد بات الآن حرّاً في الخروج، لكنّ هذا لن يحرّضه على البقاء في الخارج، الذي أُتيح له الآن أن ينفذ بحرّيةٍ إليه.

بافل الآن مصوّرٌ في مؤسّسة رسمية، الأمر الذي لا يناسب شخصاً مثله له ماضيه ومواقفه. لكنّ بافل الآن لم يعد ما كانه من قبل. إنه يرضى أن يعمل ضدّ مبادئه، يرضى أن يواكب الرئيس والوزراء في أسفارهم ومناسباتهم. ذلك لا يعني سوى أن يقوم بعمله الذي يرتزق منه. هو بالطبع ليس خائناً، ولم ينقلب على أفكاره ومواقفه. لا يسعى لأن ينال رضى الحكام، لا يتقرّب منهم ولا يمالؤهم، ولا يتوسّل منصباً أفضل ولا ترقية، كما أنه لا يحشر نفسه في حاشية أي منهم، ولا يتحوّل تابعاً لأحدهم. إنه فقط يتابع عمله الذي لا يرضيه مع ذلك، ولا يتعلّق به، ولا يصرّ عليه، بل يبقى في حيرة منه. لا يتوقف عن التفكير بتركه، الأمر الذي لا يجد همّةً ليُقدم عليه. هذا شأنه، في حين أن زميله بيتر، في محاولة الخروج، لا يرضى لنفسه بأن يعمل مستخدماً في مؤسّسة حكومية، تُلزمه بأن يتواطأ، ولو عن غير رغبة، معها. إنه يعمل حارس قصْر مع زوجته وأولاده؛ مهنة شقيّة، لكنّه يبقى حرّاً فيها.

في انتظار العتمة - القسم الثقافي

هناك أيضاً النساء. بافل، كما نراه في الرواية، متعدّد العلاقات الغرامية، التي تقع عليه، وتعرض له بسهولة فائقة، بدون أن يكون دون-جواناً، وبدون أن يكون مُخْلِصاً في علاقاته أو مصرّاً عليها. علاقاته هذه تتقطّع من نفسها، وعشيقاته يشعرن بعدم حرصه وأحياناً بخياناته، ويتخلّين، لذلك، مرغماتٍ عنه. هو إذ ذاك لا يسعى إلى أن يبقيهن، ولا يبالي بأن يفعلن ذلك. يذهب للقاء إحداهن، على سبيل المثال، ولكن حين يجدها قريبة منه، لا يعمد إلى لقائها، ويترك المكان بدون أن يراها.

موقف بافل من النساء هو أيضاً موقفه من كلّ شيء. إنه لا يحرص على شيء، وليس له موقف نهائي من أي شيء، بما في ذلك نفسه ومواقفه وعمله. تقع الانتفاضة ويسقط الرئيس، ويغادر بافل عمله إلى شركة خاصة، لكنّ ذلك كله لا يعني شيئاً له. لا يشعر بأن شيئاً تغيّر؛ الجدُد هم كالقدامى، وعمله الجديد لا يُفَضَّل على عمله القديم. علاقاته، بما في ذلك غرامياته، لا تهمّ. هو بالطبع لا يأمل في شيء، لا أمل لديه ولا إيمان عنده في شيء. لا يعنيه العمل ولا الغرام، ويبقى طموحاً لأن يصنع فيلمه الخاصّ، لكنه لا يبذل جهداً لذلك. لا ثقة له في العمل، ولا في السياسة، ولا في العلاقات. بافل، لذلك، قد يكون هو تشيكيا اليوم، تشيكيا ما بعد الشيوعية، تشيكيا الانقلاب والانتفاضة. وكأنّ الشيوعية لم تدمّر الماضي فحسب، ولكن أيضاً الحاضر والمستقبل. حين نخرج من الاستبداد، فإننا لا نزال عنده ولا نبتعد كثيراً عنه. إننا في الحاضر، وربما المستقبل، ضحاياه.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون