في الأول من أيار

01 مايو 2023
مقطع من عمل للفنان الأفريقي الأميركي إليس ويلسون
+ الخط -

علّمني التقدم في العمر، أن أزوغ من ديكتاتورية الوقت ـ هذا الداء الرائج جداً في الغرب، حتى بين الشباب.

كل فجر أقوم، لأحيا في غرفة تطلّ على غابة، آخذ الوقت بعيداً عني، وأقرأ، وفي أحايين نادرة، أكتب، حتى يجيء وقت الظهيرة، فأقيّل قليلاً.

إنه نمط حياة الفلاح، حياة أبي وأمي وأجدادي، أيام البلاد. ولقد بذلت جهداً ليس بالقليل، حتى أستعيده وأجعله طريقة حياة لي، في جنوب أوروبا ووسطها. وما دفعني إلى ذلك، أن حضارة الفلاحين، المتشابهة في كل أرجاء الكوكب، قبل بزوغ العصر الصناعي الأوروبي، متزامناً مع الرأسمالية، كانت وما زالت هي الحضارة الأنبل والأبهى، التي عرفها البشر، لأنها مربوطة بالارض، وبالتناغم معها، حدَّ أن يعيش الفلاح كجزء عضوي منها، وليس منفصلاً عنها، وسيّداً عليها، ينظر إليها فقط كمنجمٍ للاستخراج والنهب.

مشهدان، سيرافقانني إلى القبر، وآمل أن تنتهي مضاعفاتهما هناك

إن مئتي عام من العصر الصناعي، أفسدت سنن الكون، وأحرقت كوكبنا، بما يؤذن بزوالنا في أزمنة ليست بعيدة بذاك المقدار.

أعيش النمط أعلاه، كنوع من التصالح مع أيكولوجيا الأرض التي انفصلنا عنها، وعلى بعد خطوة واحدة من تقديس الطبيعة، أمّنا، كإلهة تستحق كل إجلال ومحبة. خصوصاً وقد دمّرها الرأسماليون، حد أن الكوكب كله، كبيت لنا، لا نملك سواه، مهدد بالاحتراق.

■ ■ ■

مرات، من زود التعب، يتجنّب الواحد واقعه لفترة، فينجح تارة، ويفشل طوراً. وهكذا، وعلى هذا المنوال، تمضي حياتُه التي قُدّرت له على هذه الأرض.

يتجنّب، لأن الجمال ليس هو الحقيقة، ولا الحقيقة هي الجمال (وهذا كل شيء)، كما قيل قديماً. يتجنّب ويتحاشى عتاة الكوكب، عابدي السِّنت الغربيين، سواء في إعلامهم أو مراكز بحثهم الاستراتيجية، بسبب الاستماع غير الآمن لهم. إنه ضرب من هروب عن الشر ووجوهه اللامغرية. 

يتجنّب، لأن كل ما يحتاجه للتعلّم، موجود على الأرض فقط. 

لقد بقيت صورتان من وجودي العابر على ترابها: مكوثي الطويل والمليء بالأحداث، كظل، والأسى على ما فات. والمشكلة أنهما لا تتناسبان معاً بشكل جيد. الأول هو مشهد أيام النكبة، وما تركته من مضاعفات خطيرة على الأم والجد والجدة، وكل ذلك الجيل الذي عاش أحداثها، وجاء مطروداً بثيابه التي عليه إلى المخيم. 

والذي، لتعقيد الظرف الأكثر حراجة فلسطينياً في تاريخنا الحديث، لم يعرف كيف يجمع بين الموارد المعدومة والتعبير في خدمة نقل فكرة. 

أما المشهد الثاني، فموجة اللجوء الجديدة هذه، التي شملت العرب والكرد والأمازيغ، هاربين من الحرب والجوع، تاركين المنطقة كلها، بعد أن نكّلت بهم، ولم ترحم حلماً واحداً من أحلامهم المتواضعة.

مشهدان، سيرافقانني إلى القبر. وآمل أن تنتهي مضاعفاتهما هناك!


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون