زرت المسجد الأقصى مع أم صبحي. ففي مثل ظروفنا، لابد لك من رفقة امرأة كي تكون في مأمن من عيون الشرطة. حين وصلنا مدخل المسجد، أفهمتني أم صبحي بضرورة التقيد ببعض التعليمات:
1 - عدم النظر ناحية الحاجز.
2 - التصرّف بطبيعية حين تقترب منهم.
3 - إذا وقعت الفاس في الراس وسألوك إبراز بطاقة هويتك، فتشاغل بالبحث عنها في جيوبك، وحين لا تجدها، قل لهم نسيتها في الدار.
4 - التكلم بلهجة مقدسية، فالويل لك لو عرفوا أنك غزاوي.
وعليه، فأقصى ما يستطيعون فعله، في هذه الحال، هو عدم السماح لك بدخول ساحة الحرم.
وقد نفّذت تعليمات أم صبحي بحذافيرها، ونفدت بجلدي، فكسبت التسوق بأمان، وكسبت الزيارة المشتهاة.
فصدق من قائل: لا يأتي بها غير نسائها!
تصوّرت صورة فورية صغيرة، أمام القبة، بعشرة شواكل، بعد مساومات مع المصور، إذ طلب عشريناً. ما أشد طمعه! وتركت المرأة تدخل لتصلي مع النساء، بعد اتفاقي معها على الانتظار عند ساحة باب الناظر، حتى نعود معاً.
نزلت الدرجات المؤدية إلى المسجد الأقصى، متباطئاً مستمتعاً، وتجولت في أرجائه، أتأمّل سقفه وأعمدته ومنبره، حيث وقف هنا ذات يوم القائد صلاح الدين. أدهشني صغر مساحة المسجد، بمقرنصاته ونقوشه، وتواضع حجمه.
وقفت بجوار المنبر، وهناك سألني أحد الحراس إذا كنت تركياً؟ قلت: من غزة، فأفاض في المديح والدعاء "للمحاصرين المرابطين".
ذكّرني الرجل بالزيارة القديمة جداً للمسجد، قبل ربع قرن، حيث سألني أيضاً أحد الحراس إن كنت إسبانياً؟ ما الخطب! ألا أشبه العرب!
ألفّ وأدور، ثم أنزل درجات عدة فأدخل الأقصى القديم في الأسفل. لا أمكث طويلاً، فما هو إلا رواق صخري طويل، لا يحوي شيئاً. وأخرج لأتجوّل في الباحات الواسعة للحرم، فأرى وأتنشّق أريج شجر السرو العتيق والأرضية الصخرية الملساء، وقد غمرهما نور ما بعد صلاة الظهر، السابغ. نور برتقالي على أصفر، أشد بريقاً من لون الذهب.
يا ألله ما أشهى الهواء هنا وما أعذب النور!
ثمة مجموعات من الشرطة الإسرائيلية تجول في المنطقة، ببزّاتهم الزرقاء وعصيّهم الغليظة وأسلحتهم، ومن يشتبهون به يأخذونه. مرّوا من جانبي، فرأيت فيهم مجندات أشكنازيّات يتضاحكن ويهذرن مع زملائهن من المجندين الفلاشا.
وبالمناسبة، رأيت غروباً سياحياً مغربياً من عشرات النساء والرجال. وكانوا، حين وصلت، خارجين لتوّهم من داخل مسجد الصخرة.
الرجال مهندمون، والنساء يلبسن زيّاً موحداً بغطاء على الرأس. ما إن خرجن من الباب حتى خلعنه. كذلك رأيت أتراكاً وأفارقة من الحجاج الذين يأتون إلى هنا ليقدّسوا حجّهم.
أدخل المسجد لأبحث عن أم صبحي، فأخجل من البحث عنها وسط آلاف النساء. أقول لا بأس، فهي تعرف طريق العودة جيداً، ولا خطر عليها بصفتها امرأة.
أجول تحت القبة.
أنزل درجات قليلة، وفي الكهف، حيث الصخرة التي يقال إن النبي محمداً أسرى منها إلى السماء، أرى رجلاً أوربياً يصلي بخشوع، وحوله زوجان شابان يصليان ويلمسان النتوء الصخري الضخم، على سبيل التبرك.
القبة من الداخل تحفة معمارية ولا أروع، وكانت أثناء الزيارة، في طور ترميم جديد، حيث السقّالات مرفوعة، وبعض المصلين من الفتيان يصعدونها كنوع من اللعب المرِح.
أرى أيضاً عشرات النساء القادمات من مدن وقرى الضفة بتصريح. أسمع نتفاً من حكاياتهنّ، فأهمس لنفسي: سقا الله سنوات ما قبل الانتفاضة! إذ كان الجميع لا يرى في مشوار الذهاب للأقصى، أكثر من "فركة كعب".
الآن، في هذه السنوات العجاف، تغيّر الوضع وتبدّل. فحتى فلاحات بيت لحم، جارة القدس الأقرب، يحتجن إلى تصريح، كي يبعن فواكههن وخضارهن في القدس. وحِلّني على بال ما يطلع التصريح.
يُؤذّنُ للعصر، فأشعر بالجوع، وأخرج. أما أم صبحي، فأكيد أنها الآن منسجمة في الحديث مع امرأة مقدسية، والأغلب أنها نسيتني.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا، والنصّ من يومياته في القدس المحتلة عام 2009